رأي

رحلة في ميمات حسام بدراوي (ح. 1)

رحلة في ميمات حسام بدراوي (ح. 1)

لا أدخل مصر، إلا وأعود منها، وبجعبتي كاتب من كتابها المرموقين، أنتشي بقراءة إنتاجه العلمي أو الأدبي لأيام وأسابيع بالمغرب. لكنني، وخلال هذا السفر، وعلى غير العادة، جهدت أن أجد للتريث سبيلا، حتى أرجئ الاستمتاع والتمعن في ما “غنمته” إلى حين عودتي لمنزلي بالرباط حيث تتهيأ لي أسباب الراحة والدعة والتأمل فيما أقرأ. ذلك أن المفكر المبدع والسياسي الرصين، حسام بدراوي، استحوذ على قراري، ولم يترك لي من خيار غير أن أحمل كتابه الفريد حقا “أنا والميمات” جائلا طائفا به بين مقاهي القاهرة فاحصا له عاكفا عليه.

نعم لم أتأخر، وقرأته هناك بأم الدنيا كله، أو لأقل إنني قرأت معظمه، وإذا بي أسعى مغذا هناك بالقاهرة وتحديدا بوسط البلد كما يحب أن يقول المصريون في طلب أشقائه من الكتب السابقة التي جادت بها قريحة هذا المؤلف الفذ والمنظر الحكيم، فأمسكت باثنين منها بعد لأي وطول بحث: “دعوة للتفكير”، و”حورات مع الشباب لأجل جمهورية جديدة”، واستعصى ثالثهما علي استعصاء، كان قد نفذ منذ زمن من مكتبات القاهرة.

هكذا ألفيتني أقتطع من جولاتي، لأهرع للنظر إليها ثلاثتها دفعة واحدة، أقلب صفحاتها، وأسبر أكوادها، وأملي النظر في لوحاتها الرائعة التي أبدعتها ريشة الفنان الذي يسكن كاتبنا حسام بدراوي، فأحدس بداية وأنا أطوي بعيني الصفحات ورقة ورقة أمرا، ثم لا ألبث أتأكده، وأستوثق منه بمرور الفصول، وهو أنني بصدد كاتب مختلف عركه الطب، وعجنته الحياة وتصاريف السياسة عجنة مميزة عز نظيرها، كاتب من طينة خاصة، قيض له أن يغوص في عوالم الطب والفكر والفلسفة معا، وأن ينهل أفكاره من مشارب متعددة، مما يجعله يبدو لي وسيبدو لك أنت أيضا، أنت تسيح بين السطور التي قيدها بكتبه، كما لو أنك تقرأ لرجل قادم من المستقبل. وجدتني دون أن أتهيأ لذلك إزاء كاتب قوي الأسلوب، صريح في أفكاره، لا يحب التقية فيما يكتبه، لا يتلكأ في إعلان موقفه ومذهبه في السياسة والفكر، فيعلنه لك جهارا، وبغير قليل من الفخر والاعتداد الذي يلازم عادة المفكرين الكبار. يقدم لك بوضوح مدرسته الفكرية، لكأنه يختصر عليك الوقت لتركز مباشرة على ما سيعرضه عليك من منهجية في الكتابة ومن أبنية فكرية، وخطط واستراتيجيات وأطروحات تهم النهوض العاجل ببلده مصر. وتستبصر كمصري فيما هو مطلوب منك كمهام وما سينيطه بك هو من مسؤوليات لأجل هذا الهدف القومي.

لست أخفي دهشتي الكبيرة، وأنا لازلت أطوف بحواف كتابته، ولم أخض بعد لجة المواضيع التي يثيرها، كوني أعاين منذ البداية أسلوبا تعبويا فريدا من نوعه يتجه نحو كل فئات الشعب يصدر عن رجل يمثل مدرسة سياسية اشتهرت بنخبويتها، أو هكذا تمثلناها دائما في وطننا العربي، مدرسة تعد الأقل حظا في ما أقبل عليه المصريون والعرب من تجارب في عصرهم الحديث بعد حصولهم على الاستقلال من الأجنبي، إنها المدرسة الليبرالية الاجتماعية، التي وإن انتمت لجهاز الحكم سواء بمصر أو بالعديد من البلاد العربية، فإنها لم تتصدر ولم تتزعم بشكل واضح أية تجربة يمكن أن نحسبها عليها بنفس القدر والانخراط الذي قد كان لتيارات القومية والاشتراكية والإسلام السياسي، والتي أهدرت جميعها فرص التقدم والارتقاء بالمجتمعات العربية التي سنحت. أبدا لم تجرب الليبرالية بكامل عناصرها السياسية التي تعني الديمقراطية الحقة وحقوق الإنسان ولا حتى بعناصرها الاقتصادية التي تعني فسح المجال اقتصاد السوق واحترام المنافسة الحرة، فبالأحرى أن يكون قد تم اختبار صيغتها الاجتماعية الاختبار الذي يجب. ولذلك أرى الرجل مصيبا جدا في اقتراح هذا المسار الذي لم يستكشف بعد لا من طرف مصر، ولا من طرف غيرها من البلاد العربية. أنها الوصفة المغبونة المهملة التي سماها مفكر عظيم عندنا بالمغرب والعالم الإسلامي اسمه علال الفاسي بالطريق الثالث أو بمنهج التعادلية الذي عنى به التوفيق بين الحرية والمساواة، وهو نفسه قد كان أيضا مثل حسام البدراوي من مريدي وتلامذة الإمام محمد عبده المتأثرين بأفكاره التنويرية التي كانت للأسف الشديد مجرد سحابة صيف في سمائنا العربية لم يعقبها غيث.

وجدتني إذن إزاء سياسي حامل لمشروع مجتمعي أقر أن لي به أنا أيضا وجد وكلف خاص، رجل ينوء كاهله وعقله بهم ثقيل، هو هم استنهاض الهمم والعزائم وتفجير مكامن القوة لدى أبناء وطنه للحاق بركب الدول المتقدمة، إنه مؤلف عضوي يتبنى قضايا الناس الأساسية في الحرية والمساواة والكرامة، والأهم من ذلك، كونه لا يؤلف اعتباطا، لا يهادن، ولا يساير الموجة السهلة السائدة المتنفذة على أقلام الكتاب، والتي تنأى بالقلم وبالكتابة عن أية مسؤولية حقيقية في إحداث الإصلاح المتراكم الذي يفضي إلى التغيير المنتج الذي يحقق أمل الأمة المصرية. حسام البدراوي على خلاف هذا كله، يصدر عن نسق فكري متكامل، عن خط في الحياة لا يميل عنه، وعن عقيدة تنويرية صادقة لا غبار ولا غبش فيها، يسعى أن تكون مواقفه في السياسة ترجمة أمينة لمواقفه الفكرية، وهذا تمرين صعب صعوبة بالغة لا يجيدها إلا الراسخون في النضال بالفكر والكلمة المسؤولة.

نعم استنتجت ذلك بتوالي الصفحات، واستمتعت به أيما استمتاع، ثم لا ألبث أنتبه وأنتفض فأتساءل كيف لحسام البدراوي أن يسلبني عطلتي بالقاهرة، وأنا المتلهف لحاراتها ومتاحفها وناسها الطيبين، لأتيقظ إلى أن هذا الكاتب لا يكتب إلا بخطة محكمة. هو يكتب، وكأنه ينجز بقلمه عملية جراحية لا يفلح فيها الا مبضع دقيق. بل إنه كاتب لم يمنعه أسلوبه السهل الممتنع، ولا إيثاره للصحف بنشر ميلاد أفكاره ومقالاته متى ولدت، عن المواظبة على أسلوبه الأكاديمي البيداغوجي الذي يجعله ينجح في تبسيط أعمق النظريات وأعقد الرؤى بسلاسة ويسر للشباب المتحلقين حوله خصوصا، ولكل قرائه عموما، لكأنه حين يكتب، يكون في الحقيقة كما لو أنه يحاضر في المدرج، إذ هو لا ينساق وراء حماسة الكلام السياسي، ولا اطراد الأسلوب الإنشائي، بل يوثق لآرائه ويبرهنها مسدلا عليها كلها رداء العقل والمنطق. حتى أنك حين تقرأه تحسه يرافع عن مصر القادمة، مصر الممكنة التي يراها بخياله الخلاق الخصب المؤمن بالعبقرية المصرية.

سر الإغراء أو الاستقطاب الذي مارسه كاتبنا علينا في كتابه “أنا والميمات” الذي أوثره بهذه السطور، أنه لا يستدرجك إليه، ولا يأخذك كما يفعل أغلب الكتاب رويدا رويدا، بل هو يستبد بك استبدادا جميلا، ويحقنك منذ البداية بجرعة فائقة من التشويق، بأن يباغتك منذ العنوان بهذا المصطلح المثير، الميمات. فيجعلك تتوق لفك طلاسم هذه الكلمة غير المألوفة… الكلمة الغريبة التي لم تطرق آذاننا من قبل كعرب ومسلمين، والتي كان له سبق إدخالها لمعجم العربية. يشغلك أولا بالأسرار القابعة وراء الكلمة، فتتورط معه تورطا ممتعا لآخر سطر بالكتاب، فمرحبا بهذه المصيدة الجميلة.

بهذا المخطوط يؤكد حسام بدراوي قدرة الأطباء الفائقة على التفوق والإبداع كلما اختاروا أن يتنعموا بشقاء الكتابة، فهو. يستدعي معرفته الطبية والأكاديمية والعلمية، ليقوم بنقل وتبيئة مفهوم ثقافي ذي خلفية بيولوجية في الحقل المعرفي المصري والعربي، إن هذه التوليفة التي سيقدم عليها حسام البدراوي بين البيولوجيا والعلم من جهة، وبين الثقافة والفكر من جهة أخرى، لأمر بعيد المنال، لا يتأتى للجميع، بل هو خاص بصفوة المفكرين الذين يستطيعون أن يترحلوا بكل شجاعة وحيوية بين مختلف العلوم إنسانية كانت أو اجتماعية أو اقتصادية أو فلسفية أو فيزيائية…إلخ، فنادرا ما يحدث أن تتضافر عوامل عدة كتلك التي صاغت شخصية الكاتب حسام بدراوي لتنجب لنا كاتبا ومفكرا من هذا العيار الثقيل. فالكاتب هو أولا وقبل كل شيء طبيب نساء وتوليد استطاع أن يماثل ولادة الأفكار بمخاض الطلق، وأن يشبه توارث القيم عبر الميمات بتوارث الخصائص البيولوجية عبر المادة الجينومية، وتمكن بالخصوص أن يشرح ويفهم الناس ذلك، وهو أيضا الأستاذ الذي يعي أن التعليم هو صائغ الحضارة والمرقي الأول للشعوب، وهو كذلك النائب اللامع ورئيس لجنة التعليم بمجلس الأمة الذي يستوعب أهمية أن يعكس القانون فلسفة المجتمع، ثم هو أولا وأخيرا السياسي الذي كان أمة وحده داخل الحزب الوطني، فحظي بثقة حزبه وتقدير المعارضين، واحترام الرأي العام له في أدق الظروف الحرجة التي اجتازتها مصرنا الحبيبة.

يتبع…

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News