بورتريه

عباد.. كاسرة سطوة الرجال على قيادة القطارات بإفريقيا والعالم العربي

عباد.. كاسرة سطوة الرجال على قيادة القطارات بإفريقيا والعالم العربي

ليس غريبا على المرأة المغربية أن تصنع الحدث مجددا، وأن تجلس على كرسي القيادة، والكل ينتظر لحظة إقلاعها، وهي تمسك بمقودها بشموخ، لتثبت أن المرأة صنو الرجل لا ترضى إلا بمناصب القيادة.

المغربية سعيدة عباد مثال حي عن هؤلاء النساء اللواتي خضن غمار التحدي، وصنعن الاستثناء حينما صارت أول سائقة قطار في العالم العربي.

سائقة “قطار الحسن الثاني”

ولدت سعيدة عباد بمدينة الدار البيضاء سنة 1965، ودرست بمركز تكوين المكتب الوطني للسكك الحديدية، وكانت الفتاة الوحيدة في القسم، وبعدما تخرجت سنة 1999 شرعت مباشرة في سياقة القطارات التي قادت أحدها وعلى متنه الملك الراحل الحسن الثاني في أحد أيام شهر مارس من العام نفسه.

“أنت من قُدت القطار بأبي إلى مراكش ذلك اليوم”.. بهذه الكلمات استحضرت ذاكرة الملك محمد السادس وجه سعيدة في إحدى المناسبات، كما صرحت في لقاء لها، وهي تروي وقع هذه الكلمات في نفسها بنبرة تكسوها مقامات الثقة والفخر.

طريق المجد كلّه أشواك

بعدما أنهت سعيدة عباد دراستها الإعدادية والثانوية في إحدى المدارس الداخلية بمدينة إفران، وجدت نفسها محاطة بعدة صعوبات أفضت في النهاية إلى انقطاعها عن الدراسة، هذه الصعوبات تجلت أساسا في صعوبة التنقل من وإلى الجامعة.

بعد هذا القرار المفصلي، تدخل عباد قفص الزوجية وهي لم تكمل الـ22 من عمرها، شعرت بعدها أن حياتها بدت رتيبة، تتحرك فيها ضمن وتيرة واحدة، ففكرت مليا في إيجاد منفذ جديد إلى الحياة، لم تكن تتوقع أن يكون خلاصها في العقبة ذاتها التي حالت دون مواصلة دراستها، وكأنها تحقق قول أبو نواس: “وداوها بالتي كانت هي الداء”.

استعادت سعيدة حياتها المستقلة مرة أخرى، وساعدها في ذلك والدها الذي كان الداعم الوحيد لها، وخطا سويا بداية قصة نجاحها، الذي حاكها والدها وهو سائق قطار، ومثلتها ابنته واقعا، وإيمانا بقدرتها على تسلم المقود بدلا عنه نحو وجهة التفرد والتألق.

تصف سعيدة هذه المرحلة من حياتها في حوار صحفي سابق قائلة: “نسق حياتي كان بطيئا جدا ومملا للغاية، كنت سيدة بيت انقطعت عن الدراسة وتنتظر زوجها وأبناءها كل مساء، لكن الأمر تغير في لحظة.. كأن شخصا طوى ذلك الكتاب وأعاد فتح آخر لسيدة تخطو نحو النجاح الأسطوري”.

“قطار سريع” كسّر كل العقبات

كسرت عباد القاعدة، وحققت السبق بأن تكون أوّل امرأة مغربية وإفريقية وعربية تتسلم قيادة القطار. هذه الخطوة كسرت جليد الخوف، ومهدت السبيل لنساء أخريات لاقتحام مجالات احتكارها الرجال، وأصبحت قدوة الكثيرات للدخول في مهنة السياقة، كما اشتغلت على قضايا المرأة ضمن تنظيم الاتحاد التقدمي لنساء المغرب، من خلال تنظيم ندوات علمية وفكرية حول حقوقهن، وكذا دورات تكوينية للنساء العاملات، أيضا مثلت المرأة السككية للمغرب في تنظيم دولي للفيدرالية الدولية للنقل، وتلقت تكوينات خارج المغرب، كما قادت أوّل انطلاقة للقطار بطابقين بعد توجيهات ملكية.

تقول سعيدة عباد في لقاء لها: “قطاع سكك الحديدية كان دائما قطاعا ذكوريا إلا أن ولوجي لمهنة السياقة شجع النساء للالتحاق بهذه المهنة، فولوجي لمهنة الذكورية كان حدثا أثار انتباها على مستوى الرأي العام العربي والدولي.”

وأضافت قائلة: “حضوري القوي في الاتحاد المغربي للشغل سمح لي بالاشتغال على قضية المرأة في السكك الحديدية، وقضية المرأة بصفة عامة في قطاع النقل”.

لم يمر قطار سعيدة عبر محطات سالكة، بل كانت محطات محفوفة بالمخاطر والعقبات، التي حاتل دون الوصول الآمن إلى المبتغى الذي رسمته لنفسها من خلال الوسط الذي يقف حجر عثرة في مسيرة كفاحها، ونضالها المستميت لتحقيق ما تحلم به.

لم تسلم من تهكّم البعض كونها امرأة تزدحم وسط الرجال، خاصة وأن مجال القيادة ينسب دائما للرجل، حتى هناك من يرفض أن تقله امرأة، ويرى في ذلك انتقاصا منه واستخفافا بقدرتها على فعل ذلك.

هنا تنفض سعيدة عباد الغبار عن ذاكرتها وتستحضر بعض هذه المشاهد المظلمة من حياتها وتقول: “في بداية مشواري خلف مقود القطار، وبالضبط سنة 1999، واجهني الناس بالتهكم، خاصة بعض السائقين زملائي، أما في حالة وقوع عطب تقني وتوقف القطار فيصل الأمر إلى السب من طرف الركاب.. فقط لأنني امرأة”.

استطاعت “سيدة القطار الأولى” تجاوز هذه النظرة، من خلال السمعة الطيبة التي خلّفها والدها لدى العاملين في الإدارة، وكانت سببا في تغيير هذه الصورة النمطية التي رسّخها غياب المرأة عن قطاع النقل.

ومر قطار حياتها بالكثير من المشاهد العالقة في وجدانها، لكنها قررت إثر مشاكل صحية اعترتها أن تنزل في المحطة الأخيرة في أبريل 2017 دون التخلي عن علاقتها الروحية بالقاطرة، لتنال قسطا من راحة المحارب، وتفسح المجال بعد 15 عشر عاما من التفاني الظاهر على بعض التجاعيد المرسومة على ملامحها إلى نساء أخريات يجدن شغفهن في التربع على عرش القيادة.

وتعبر عن شعور هذه اللحظة فتقول كانت لحظات صعبة.. عندما أدركت أنها آخر رحلة، ذرفت دموع الفراق مع المكان الذي صنع اسمي وحملني إلى العالمية”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News