منير القادري.. شيخ صوفي برتبة دكتور يحمل هم حوار الأديان والثقافات

ظهر مفجوع القلب وهو يُقلّب صفحات من وصايا والده الراحل، جمال الدين، الذي سلمه سر الزاوية والطريقة القادرية البودشيشية قبل الانتقال إلى الرفيق الأعلى؛ كيف لا وهو صاحب أطروحة دوكتوراه عن معاني “القلب” خلال القرون الأربعة الأولى من تاريخ الإسلام، جامعاً بها بين التأثر بتراث صوفي أصيل طاعن الجذور في التدين المغربي، وتكوين أكاديمي ينتظر أن يكون له وقع على مسار الزاوية التي بات يتولى رئاستها.
وشهدت الساحة الصوفية المغربية مؤخرًا تولي الشيخ منير القادري بودشيش رئاسة الطريقة القادرية البودشيشية، خلفًا لوالده الشيخ جمال الدين القادري بودشيش، في انتقال سلس أقره الأخير قبل وفاته.
ويُعتبر منير القادري بودشيش اليوم الصوت الروحي المعتدل والمُلهِم للطريقة التي تمثل جزءًا مهمًا من التراث الصوفي المغربي، بفضل تكوينه الأكاديمي الذي بات يعطي منذ الآن “العمق العلمي” للطريقة البودشيشية.
فمنير القادري بودشيش حاصل على إجازة في الدراسات الإسلامية من جامعة وجدة عام 1994، وفي سنة 2005، ناقش أطروحة دوكتوراه في أحد محوريات التدين الصوفي، ناهيك عن نشاطه الجمعوي والمدني.
حامل لهم حوار الثقافات والأديان
“لكل شخص حامل لهم القيم الإنسانية”؛ بهذه العبارة يفتتح منير القادري بودشيش مقاله الرئيسي بوصفه رئيساً لمؤسسة “الملتقى”، وهي جمعية غير ربحية أسسها برؤية تهدف إلى “المساهمة في بروز نموذج مجتمع مزدهر، يقوده رجال ونساء حاملون لقيم السلام والتنمية المستدامة ومتحمسون للقيم العالمية”.
ومنذ تأسيسها في عام 2015، تروّج مؤسسة الملتقى لنموذج مجتمع مزدهر، وانطلاقًا من هذه الرؤية، طورت نهجًا فريدًا للعمل الجمعوي، يلتقي عنده ثلاث مهام: العمل من أجل مواطنة مسؤولة؛ توحيد ودعم الفاعلين في الاقتصاد الاجتماعي والعمل البيئي؛ وأخيرًا، تعزيز السلام والحوار بين الثقافات.
وتشتهر المؤسسة التي يقودها منير القادري بتنظيم “الملتقى العالمي للتصوف” في مداغ، وهو حدث سنوي يجمع بين الباحثين والفلاسفة والمفكرين من مختلف أنحاء العالم، ويسعى من خلال ذلك إلى تعزيز قيم التسامح والحوار بين الثقافات والأديان.
ويقول بودشيش إن هذه المبادرة تتغذى على عدة عناصر، “بدءًا من التمسك العميق بقيمنا المغربية الأصيلة في المشاركة والتضامن والسلام، وكذا من غنى أعضائها وشركائها على الأصعدة الفكرية والأكاديمية والعلمية، مما يشكل شبكة دولية غنية ومثمرة”.
ويخلص إلى أن “اليوم، من الضروري تجسيد القيم الأخلاقية العالمية النبيلة، كاستجابة للأزمات المتعددة الراهنة، مع تطوير المهارات البشرية والاجتماعية والتقنية المطلوبة في جميع مستويات حياتنا، بهذه الطريقة، نسعى معًا لإحداث تغيير مستدام في أنفسنا ثم في العالم، بأخلاق وكفاءات”.
دكتور قارب المفهوم الإسلامي للقلب
في سنة 2005، ناقش الشيخ منير القادري أطروحة دوكتوراه تحت إشراف عالم الإسلامولوجيا الفرنسي الشهير، بيير لوري، بفرنسا، لم تشذ بدورها عن الهم والثقافة الصوفية التي نشأ عليها، تناولت موضوع “مفهوم القلب في القرون الأربعة الأولى للهجرة: نموذج أبو طالب المكي”، سيما أن القلب يعد العضو والحاسة المركزية في التقليد العرفاني المتصوف بشكل عام.
ذلك بالفعل ما يمكن قراءته في مقدمة الأطروحة التي تقول “يشكل القلب العضو الروحي المركزي في التصوف. فهو يمكّن من فهم تعقيدات العلاقات الدقيقة بين مختلف القدرات الداخلية للإنسان، كما أنه المكان الذي تتجلى فيه العلوم الباطنية والفهم العميق، والحاضن للهبات الإلهية”.
ومن خلال دراسة كتاب “قوت القلوب” لأبي طالب المكي، استكشف منير القادري مفهوم القلب في القرون الأربعة الأولى للهجرة، سيما وأن الكتاب ومؤلفه لم يحظيا حتى الآن بدراسات كثيرة، رغم تأثيره الواضح على العديد من المؤلفين، من بينهم الغزالي الذي اقتبس كثيرًا منه في تأليفه لكتاب “إحياء علوم الدين”.
ويُدرس “قوت القلوب” كنص تأسيسي لعلم التصوف وقواعد سلوك المريد. فأبو طالب المكي يصوغ عمله وفق رحلة المريد في الطريق الروحي، و”يُعتبر هذا العمل موسوعة للتقوى الإسلامية، تزخر بالمعلومات عن الأجيال الأولى من الزهاد والصوفيين، وكذلك عن عصره وتعدد التيارات الفكرية في القرن الرابع للهجرة”.
كما يؤسس الكتاب الذي تناوله بالدراسة شيخ الطريقة البودشيشية الجديد، لعقيدة القلب التي هي علم شامل يضم كل جوانب الحياة الاجتماعية والدينية والروحية، فعلم التوحيد مرتبط عضوياً بهذا العلم القلبي، كما أن الأعمال – التي بحسب أبو طالب المكي تنبع من القلب – مرتبطة به ارتباطًا جوهريًا.
وبقيادة منير القادري بودشيش، تسعى الطريقة القادرية البودشيشية إلى لعب دور محوري في بناء جسر روحي إنساني يعزز السلام والتفاهم في مجتمع يمر بتحديات كثيرة. ويبدو أن هذا الزعيم الروحي الجديد يسير بخطى ثابتة نحو ترسيخ مكانة التصوف كقوة إيجابية في المشهد الثقافي المغربي والعالمي.