فن

فيلم “أبي”.. نقلة نوعية في الكتابة السينمائية “تُعرّي” إشكالات الإرث والنظرة الدونية للمرأة برؤية مُتفرّدة

فيلم “أبي”.. نقلة نوعية في الكتابة السينمائية “تُعرّي” إشكالات الإرث والنظرة الدونية للمرأة برؤية مُتفرّدة

بعد مسار حافل بالأعمال التلفزيونية، مواز للأعمال السينمائية، يأتي فيلم “أبي” للمخرج محمد الشريف الطريبق كنقلة نوعية في الكتابة السينمائية وهي تحذو إلى محو المسافة بين السينما والتلفزة.

يحكي فيلم “أبي”، الذي اختار مدينة سيدي إفني لتصوير مشاهده، قصة شابة تحمل إسم “شيماء” في العشرينيات من عمرها، متمردة كما يبدو من طريقة لباسها وإقدامها بجرأة على السفر لوحدها، واختراقها مجموعة من الفضاءات التي يرتادها الرجال في الغالب، تسافر من إحدى مدن الشمال نحو مدينة سيدي إفني للبحث عن أبيها الذي اختفى في ظروف غامضة على إثر خلاف عائلي.

لم تكن الفتاة على علم بالأسباب الخفية لسفر الأب، وكانت تشعر بالذنب، لأنها لم تكن معظم الأوقات على وفاق معه، وهو توتر يحصل عادة بين أب وابنته في مرحلة معينة، عندما ترغب البنت في الإستقلال بذاتها وبأسلوب حياتها، دون أن تعلم أنه سافر من أجل رؤية أمه وأفراد عائلته بعد غياب دام 20 سنة.

والملاحظ أن قصة الفيلم لم تتشعب كثيرا، لذلك ظل عمقه الدرامي غير كثيف من حيث تناسل الأحداث وتشابك واجهات الصراع، وظل الحكي محصورا داخل دائرة أسرة واحدة كشظية صغيرة ضمن النسيج الأوسع للمجتمع، أسرة عرفت، كغيرها من الأسر المغربية، مشاكل ناتجة عن الإشكالات التي يطرحها موضوع الإرث وأثره على تفكيك لحمة الأسر، والذي دفع أب شيماء إلى الاختفاء زهاء 20 سنة، ليخلو الجو لأخيه الأكبر ويتصرف في إرث العائلة كيفما يحلو له.

فيلم “أبي” يشدك من بدايته إلى نهايته، من خلال حوار مقتضب وجمل بصرية مكتوبة بعناية عبر كاميرا متحركة، تتابع تارة حركات الجسد في بعدها الكوريغرافي، وتارة أخرى تستوقفنا للغوص في الأغوار العميقة لنفسية الشخوص، دون أن تقيم حدودا فاصلة بين الرؤية والتأمل، مما جعل واقعيته طاغية، بعيدا عن المبالغة في التعبير، كما كشف عن مقدرات الممثلين في أدائهم، رغم البساطة، لا سيما الشابة أنيسة العناية التي أبانت، بموهبتها الفطرية وعفويتها، عن قدراتها في تشخيص حقيقي قادر على نقل الانفعالات الداخلية بكل سلاسة، أنيسة التي احتلت مركز ثقل هذا العمل، واختيارها كان فيه ذكاء، ملامحها، تعابيرها، نظراتها المثقلة بالحزن والمعاناة، حركاتها، ترددها، صمتها… كلها عناصر شكلت الشخصية الملائمة لهذا الدور.

القصة بسيطة للغاية لكن طريقة تناولها وسردها، ومعالجتها، وشحنها بالمشاعر الإنسانية، وكذا اللغة البصرية المستعملة، جعلتها تشكل عملا خصبا ممتلئا بعناصر فنية ذات حمولة إبداعية وجمالية مميزة وبعد إنساني واضح.

حضور الموسيقى التي رافقت مشاهد الفيلم منذ البداية، جعلها تتغلغل بانسبابية إلى الأعماق، وتعطي شحنة شعورية نابعة من داخل الصورة، وليس استعمالا مقحما أو حركته حاجة المخرج إلى ملء الفراغ وتعويض ضحالة الأحاسيس.

لقد نجح الفيلم عبر الصورة، دون الحاجة إلى كثير من الكلام والحركة، ودون الحاجة أيضا إلى تكثيف العمق الدرامي، في إبراز صورة المرأة في المجتمع المغربي، الذي ما يزال، رغم انتمائه للعصر وانفتاحه على ثقافات مختلفة، ساهمت فيها الطفرة المعرفية والتكنولوجية المتسارعة عبر العالم، ورغم التحديثات التي ينهجها المجتمع في أسلوب عيشه وعاداته، ورغم اختراق المرأة للفضاء العمومي ومشاركتها الرجل في تحمل المسؤوليات المهنية والاجتماعية، إلا أن العقلية الذكورية ما تزال معششة، وتراوح مكانها.

واعتبارا لكل ذلك، عمد المخرج إلى إرباك رد فعل الجمهور وتأزيمه وتكسير توقعاته حول فتاة تسافر لوحدها، شابة جميلة، ذات شخصية مستقيمة، لكن المجتمع يرفضها، ولا يعطيها الفرصة لتكشف عن نواياها وعن هويتها الحقيقية، مما اضطرها إلى الكذب منذ بداية مشوار البحث عن أبيها.

فمنذ الوهلة الأولى تبدو الممثلة أنيسة العناية مطاردة ومرتابة، كهاربة من جرم اقترفته. العيون تلاحقها حيثما حلت. متلازمات الشؤم تسكن خطواتها. نظراتها الحذرة حول كل شيء يتحرك حواليها، فقط كونها أنثى غريبة عن مدينتها ولوحدها، لن تجد مكانا في فندق تستريح فيه، وتضطر للمبيت في مدخل إحدى العمارات، أو راحة في المقهى، كيف ذلك وهي محاصرة بجمهرة تتقن فن التدليك بالعيون!؟ أو أمانا في الشارع لأنها تعرضت لاعتداء أدى إلى سرقة هاتفها النقال لولا تدخل الشاب ميلود الذي تمكن من استرجاع حقيبتها، نفسه الشاب الذي سيساعدها على إتمام المهمة التي أتت من أجلها.

وبهذا الصدد، يمكن الانتباه إلى إحدى المصادفات التي اعتمدها المخرج في حبكته، إذ نسج من خلالها قصة حب، وكأن نهاية القصة بعثور الفتاة على أبيها وسط اللمة العائلية، هي بمثابة بداية حب يانعة آخذة في التشكل والنضج بين شيماء وميلود.

إن سفر شيماء هو، وفق مخرج الفيلم، بمثابة “بحث عن الذات والتصالح معها، وبالتالي التصالح مع الأب الذي كانت تربطه بها علاقة متوترة، وأيضا فرصة لشخصية الفيلم لاكتشاف أصولها العائلية”.

كما أنها كشفت عن صراع محتدم وقديم بين الإخوة أساسه مادي،، ويتمحور حول مشكل الإرث ونزعة السيطرة لدى الابن الأكبر، عمها، بسبب الأنانية والغيرة والرغبة في الانتقام، مما خلق حواجز نفسية سميكة ومشحونة بين أفراد الأسرة الواحدة،
في نفس الوقت أثار سفر شيماء غيض عمها، رأس حربة كل الشرور والمشاكل التي تعاني منها العائلة، حين دفعته أنانيته ونار الغيرة المشتعلة في أحشائه إلى التساؤل: كيف بفتاة تسافر لوحدها وتقطع مسافات طويلة بحثا عن أبيها، بينما ابني الوحيد الذي يقتسم معي نفس السقف، لا يبالي بي ولا يبادلني أي ذرة من الود والاحترام!؟

إن رحلة الشخصية في أي فيلم، كما يشير الشريف الطريبق إلى ذلك في كتابه “ماهي السينما؟ كتابات وتأملات لمحاولة الفهم”، هي رحلة في الاتجاه المعاكس، رحلة مجازية للعودة للذات، تبدو في ظاهرها خطية، لكنها ليست كذلك. السرد الخطي هو وهم وجد فقط ليرتب الأشياء والأفكار ويهيكل البناء ليس إلا، ويوهم بنوع من الواقعية من حيث تعاقب الأحداث في الواقع، إلا أن السرد لا يتطور حتميا بشكل خطي متصاعد، لكنه لا يتوقف عن العودة إلى الخلف، كعودة أبدية إلى نقطة الصفر لحل أزمات الحاضر والماضي معا”.

فالحياة تتسرب إلى الفيلم بكل عفوية، لأن الفيلم لا ينطلق من يقينيات جاهزة، أو فهم محدد للواقع، بل يصبح محفزا على التساؤل ووسيلة للتأمل، مما يجعل المسافة بين الفيلم والمشاهد تنمحي. إنه اختبار واع ودقيق لإمكانات الصورة في القبض على إحساس اللحظة أو اللحظات المقتطعة من سياق الحياة.

وهذه إحدى العوامل التي قد تجعل معظم المشاهدين، حسب المخرج، لا يتفاعلون مع الفيلم، هكذا لأن هناك مجموعة من الأمور تفهم من خلال سياقها، فليس مطالبا من الفيلم أن يشرح مجموعة من الأشياء والتفاصيل المعاشة، فتسلسل الأحداث وحده هو ما يولد المعاني دون أن يفصح عنها الشخوص في حواراتهم.

من ناحية أخرى، لم يضع الفيلم نصب أعينه تأجيج الجدال الفكري والسياسي حول وضع المرأة والعقلية الذكورية التي ما تزال تحاصرها، فالسينما بلغتها الخاصة تدفع المتلقي إلى التفكير في المجتمع من خلال مشاهداته السينمائية، وتظل ساحة الفيلم مجرد أرضية للتفكير الجماعي في معضلات الإنسان.

لقد تعمد المخرج عن وعي، كما هو الشأن في كل أعماله، خفض منسوب التوتر الدرامي في هذا الفيلم، فما يبدو ناقصا من ناحية تسارع الأحداث وتشابكها وحدة التوتر والصراع بين الشخصيات، يدفع المتلقي إلى التماهي والتتبع الدقيق للأحداث والحكاية ويفوت على نفسه، كنتيجة لذلك، فرصة التأمل، تأمل الجسد، سحر وجمال الفضاء، العلاقات الإنسانية، المعاني الخفية للصراع، لحظات الصمت، دون أن نفقد عناصر المتعة والفرجة السينمائية.

تعليقات الزوار ( 1 )

  1. الاشكال الحقيقي يتمثل في غياب العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة وانتشار الفساد والسطو على المال العام مما تسبب في نشر الفقر والبؤس واليأس، الذي لم يستثن رجلا او امرأة. ولا يمكن الضحك على الناس بقول الاشكال في تقسيم الإرث، هذا إذا ترك الأب إرثا؟!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News