ثقافة

الكاتب محمد جزار يتتبع المعاني الخفيّة لمسرحية “شكون فينا ؟”

الكاتب محمد جزار يتتبع المعاني الخفيّة لمسرحية “شكون فينا ؟”

تنطلق المسرحية من قلب ظلام مطبق، كما لو أن ذات الممثلين لا يتأتاها منولوگها الخاص إلا في السواد، كقبس ضوء ضئيل وبعيد، مثلما يحدث في شاشة الحلم تماما، حيث يظهر ممثلان متلبسان بعتمة الخشبة وهما يقتعدان كرسيا أبيض. في صمت وبغموض يلتفتان لبعضهما بنظرات قلقة وحائرة، في مساحة مغلقة تبدو كغرفة ملائمة لاستدراج الشخصيات ومن تم دفعها للبوح.

من هنا تبدأ رحلة البحث عن الحقيقة من خلال شخوص متخفية خلف المرايا، مرايا ذات متشظية، تحمل وجوها بأكثر من قناع، تتجاوز إطار التجاذب الثنائي للممثلين، وتصيب الجميع بعدوى السؤال.

إنها إعترفات بيضاء أو لنقل نقطة ضوء تنير ما التبس من الأسئلة، فدوما نحس أنه ثمة عطب مستمكن، أو قاطع فج يجعل الأحلام لا تتحقق، أو سر ما قابع، في الأدوار والأشياء التي تجمع الممثلين الشابين يوسف شغايش وبدر العگباني، وهما يبحثان بشغف وعبث أيضا، عن أثر بعيد لماض نضالي حافل بالفكر الماركسي والشعارات الثورية ومن تم التنكر له، في مرحلة لاحقة، بل والانقلاب عليه باختيارات متطرفة، كما حصل مع الطالب اليساري يوسف الذي وجد في التدين ضالته أخيرا، لكنه رغم ذلك لم يعثر على الأمان النفسي والروحي، وظل يبحث عن حبيبة سرية قديمة مشتركة مع صديقه بدر، سنكتشف ذلك لاحقا، إسمها سعاد كامرأة، وقد تكون ربما، وهذا ما توضح خلال مجريات العرض، ما نتعلق به جميعا، سعاد الفكرة والحلم، بعيدا عن أي تمثل فيزيقي للشخصية كما قد يبدو للبعض.
وهذا ما جعل الجمهور، بعد طول انتظار وانكشاف الخيط السري الذي يربط الممثلين بسعاد، يصاب بالخيبة، لا سيما أن اللحظات الأخيرة من المسرحية لم تكشف عن علاقة جدية بسعاد، ما ساعد على بعثرة هذا الترقب، ترقب سعاد المرأة والحبيبة من خلال نظرات الممثل بدر الذي بدا، رغم بعض الافتعال، كشيطان ماكر وهازئ أحيانا، من خلال لعبة الظهور والتخفي، ولعبة الأقنعة التي تجعل من الممثلين معا يحملان، من خلال حوارهما المتوتر، وجوها غير حقيقية، ويتقمصان دور اللاعب الذي باستطاعته دحرجة الكرات والأدوار في كل إتجاه دون هدف محدد.
أيضا سينكشف سر زواج بدر بسعاد، لكن دون أن تضمر له نفس مشاعر الحب التي تكنها ليوسف. يوسف الذي عايشها على مدى مرحلة طويلة منذ الصبا، لما كانا طفلين يلاعبان بعضهما ببراءة في دروب الحي، وكذا كرفيقة الدرب خلال مرحلة دراسته بالجامعة كطالب يساري منخرط في حمأة النضال والشعارات الثورية والأحلام الكبيرة في التغيير والحرية.

ظلت سعاد طوال العرض كحلم هارب لا يتجسد، إذ لم تعد تلك الفتاة المبحوث عنها والمرغوب فيها، بقدر ما كانت مبررا ومدخلا لقصة حب اشتبكت بمشنقة السياسة وجبروت السلطة وإجهاض الحلم اليساري، ومؤشرا على تحولات عميقة قصفت بكل الاحلام وبكل الحب الذي كان يغتمر مشاعر يوسف. إلأمر هنا، بالنظر إلى تحولات الزمن الحالي، كخيال رومانسي جريح بسحنات شاحبة.
إن الممثلين كما يبدو لاعبين فقط، حيث أبقيا على مسافة حذرة بين الممثل ورديفه الخلفي المستتر لدرجة يصعب تبيان الفكرة الجوهرية التي يتقمصانها. إنهما يلعبان مع بعضهما ويملٱن فراغات ليس غير، واستمرار الحوار بينهما رهين بملء تلك الفراغات. إنهما صائدان بارعان، وأحيانا مرتبكان، لأية أفكار كيفما كانت لتمطيط الحوار.

إن فكرة البحث عن سعاد السر – يقول المخرج محمد الشريف الطريبق، استلهمتها من شريط وثائقي أنجزته حول باريس يحمل عنوان passage / عبور، وكانت أول مرة تطأ فيها قدماي أرض فرنسا سنة 1999 ، للاستفادة من تكوين في السينما، ونظرا لكوني لم أحظ بالرفقة التي كنت أتوق إليها مع صديقتي كارين Caren، وهي مخرجة فرنسية معروفة، لأنها كانت غائبة، وكانت بالنسبة إلي مفتاحي الوحيد لاكتشاف فضاءات باريس الساحرة، فقد عشت نوعا من الضياع في شوارعها الشاسعة التي لم أكن أعرف عنها شيئا سوى ما خزنته حولها من خلال الأفلام والروايات وماركات العطور الشهيرة والموسيقى … ، فجاءتني فكرة إنجاز قصة داخل الشريط الوثائقي يتم التركيز فيها على بحثي المضني عنها، لكن دون جدوى، وتظهر مشاهد الشريط اتصالاتي المتكررة بها، لكنها في كل مرة لا ترد على اتصالاتي، والغريب في الأمر أن الناس كانوا، لا سيما أثناء حفل تقديم الشريط، كلما رأوني رفقة صديقة فرنسية أو أي فتاة، يسألوني بتلقائية : هل هذه هي الفتاة التي كنت تبحث عنها ؟ ولكثر ما تكرر سؤال الناس عنها، جاءتني فكرة كتابة نصى مسرحي، لم تكن معالمه واضحة في البداية، يدور حول البحث عن شخصية مجهولة الهوية، غامضة نوعا ما، إذ تعمدت أن تكون شخصية خيالية تسمح لكل شخص أن يراها وفق منظوره وتمثلاته الخاصة..

“شكون فينا ؟ ” حقا عنوان تشويقي يستفز كل واحد منا ويدفعه لمساءلة الذات عن شكون فينا !؟ ، ونفس الاستفسار حول ” شكون سعاد !؟ ” ، التي تبدو من خلال ملصق المسرحية الأول امرأة تحمل حقيبة سفر كدلالة على الرحيل، لكن حين نسافر مع العرض تتمطط هذه الشخصية لتتوزع بين تأويلات متعددة، قد تكون حبيبة قديمة أو حلم أو فكرة أو وطن أو حقيقة ضائعة … ومن تم تورط الجمهور لتنقله باستفزاز، وبدرجة ما من الغموض الذي يكتنفها، من حالة التلقي المحايد إلى الانخراط في السؤال والبحث والإنتاج المطرد للمعنى في غياب أجوبة واضحة ومحددة.

من ناحية الأثر الجمالي وبالتحديد في المدى البصري، اعتمد المخرج، دون استدعائه للمؤثرات الفنية، على أثاث سينوغرفيا بسيط جدا، من إبداع دار الفن وتقنيات الفنانة ٱمنة الزاوي، دون إثقال الخشبة بالديكورات، وتعمد التخفف من كل الزوائد إلا من كرسي أبيض للانتظار أو كخشبة تمور باعترافات الشخوص.

كان سريان الحوار كمجرى النهر ينساب، بدارجة منتقاة ومعبرة، خالية من التكلف والابتذال، ترقى إلى مستوى الكتابة الأدبية، مما يدحض مجموعة من المفاهيم المغلوطة حول الدارجة المغربية، لما تزخر به من إمكانات هائلة في التعبير عن الأفكار وترجمة الأحاسيس ضمن سياق ثقافي ومعرفي ووجداني، ما جعل الحوار في المسرحية نحس به نابعا من صلب بيئتنا، كلغة مشاعة عبر التداول اليومي في الفضاءات العمومية، قرب الجمهور بيسر وسلاسة من مرحلة زاخرة بالصراع ما تزال تشغل المهتمين والباحثين بأسئلتها الفكرية والإيديولوجية والسياسية التي كانت تؤرق الجيل السابق، بعيدا عن كل افتعال وتنميق للصورة، فالصورة هنا تقول نفسها ببساطة عارية. وهذا – حسب الشريف الطريبق – إختيار فني لازم تجربته منذ بداياته الأولى في مضمار السينما.

هناك أيضا لحظات الصمت الناطق، والإيقاع المطرد في الكشف، من مكاشفة إلى ٱخرى، رغم ما ينقصها أحيانا من وهج وقوة في ترجمة انفعالات الممثلين ومشاعرهم كبوح، كان من المفترض أن نحسه نابعا من الأعماق، وليس مجرد جمل حوارية لا تتعدى سقف الحنجرة، مادام أن زمن النص يتجاوز ما هو فيزيائي بالمعنى الجسدي للكلمة، إلى ما نشعر به من أحاسيس ومشاعر لمكنونات الشخوص في بعدها النفسي.

ومن الطرائف الجميلة التي حصلت داخل القاعة، أنه في لحظة ما، حيث الجمهور مبتلع في الصمت والتتبع الدقيق والندماج الكلي في مجريات العرض، رن هاتف سيدة، وكانت بالصدفة تجلس بجنبي، انزعجت السيدة كثيرا لحدوث الأمر، والغريب أن المقطع الموسيقي الذي صدر عن الهاتف كان مقطعا صامتا لإحدى أغاني فيروز، حيث تساوق صدفة، حسب انطباعات مجموعة من المشاهدين، مع المشهد الجاري داخل العرض، لا سيما أن المخرج للإشارة نأى بنفسه عن استعمال أي مؤثرات فنية خارجية واكتفى بالموسيقى الداخلية لحوارات وأصوات الممثلين.

عند الحديث عن الثرات الماركسي كفكر وكتجربة أطرت مرحلة زاخرة ضمن صيرورة نضالية طويلة، وهو نفسه المدار الفكري والسياسي تقريبا الذي سبقت مقاربته في فيلم ” زمن الرفاق ” لكاتبه الأستاذ عزيز قنجاع وإخراج محمد الشريف الطريبق، فإنني أرى أنها ما تزال ممتدة في الوجدان والمخيال الجمعي، وهي مستمرة في الوجود رغم محاولات الإقصاء والمحاصرة، فقط لأن شروط إنتاج الثراث الماركسي واليساري عموما ما تزال قائمة في ظل توحش الرأسمال. إنها أوراق لم تحترق تماما وما تزال رغم كل شيء ” تتشعلق ” بنبض ما ولا تريد أن تسقط أو تستسلم.

ما أتعس أن يعيش القلب مثقلا بالذكرى ! فليس ثمة أقسى من أن يعيش المرء بين نارين؛ نار التعلق المحموم بحبيب عزيز أو فكرة عظيمة، ونار الحيرة وهو يطوي مسافات إنتظار طويلة، ذلك حقا أقسى من الفقدان نفسه !
مع مرور الوقت، وتدفق الإعترافات، يتعذر تلمس أثر سعاد في الأفق، لأن ذلك ليس الاتجاه الذي رسمه المخرج، رغم توريط الجميع في متاهات البحث عن شيء مفتقد، وهذا ما يجعل الانفعالات تحتدم إلى حد الاصطدام أحيانا، ويذكي قلق الشخصيات، لأن المبحوث عنها هنا مجرد فكرة لا تماثل تصوراتنا الغريزية حول سعاد / الجسد، إنها أرضية لتوليد الأفكار وتناسلها في سياق حوار درامي مفتوح على كل التأويلات والاحتمالات كأن المسرحية تشهر في الدقيقة التسعين من عمر العرض كارط تنبيه في وجهنا وتقول مازحة :
– لا تذهبوا بعيدا، إننا نلعب فقط .. !
فما أغبى أن نكتشف أخيرا بعد طول بحث وعناء أن الحقيقة مجرد حقيبة سفر مليئة بالعبث ومدعاة للسخرية والضحك !
2022

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News