وجهة نظر

فتحي: أخيرا تستجيب إسبانيا لحقائق الجيوستراتيجيا

فتحي: أخيرا تستجيب إسبانيا لحقائق الجيوستراتيجيا

كانت مفاجأة سارة أن تزف إلينا إسبانيا بشرى المصالحة بين البلدين مساء يوم الجمعة 18 مارس 2022 في بلاغ للديوان الملكي المغربي ينبئ بمضامين رسالة وجهها لجلالة الملك محمد السادس رئيس الحكومة الإسبانية، وبلاغ آخر صدر بمدريد لنفس الحكومة، تضمنوا جميعا معالم الميثاق الجديد الذي ينوي البلدان أن يربط بينهما، حيث، وأخيرا تعترف إسبانيا بما تفرضه عليها الحقائق الراسخة للجيو استراتيجية بخصوص حيوية المغرب وضرورته لها.

ففيما يشبه العودة النصوح إلى جادة الصواب، كان القرار الذي أفصح عنه رئيس الحكومة الإسبانية أكثر من تاريخي، لأنه جسد تحولا جذريا في موقف الدولة المستعمرة سابقا للصحراء المغربية، وكشفا صحيحا لموازين القوى الجديدة إقليميا بالشكل الذي أضحى يفرضه زخم الإنجازات الدبلوماسية المغربية، وتراكم الاختراقات التي حققتها في سبيل توطيد وتحصين الحق المغربي في أقاليمنا الجنوبية.

إسبانيا والمغرب بلدان حكم عليهما بأن يتلاقحا ويتفاعلا ويحتكا منذ بدء الخليقة على وجه الأرض، هما بلدان متجاوران متقابلان على ضفتي البحر المتوسط، شكلا فيما مضى، وفي أروع تجربة حضارية عرفها العالم، نموذجا فريدا لتمازج الثقافتين الشرقية والغربية، بلدان تحتم عليهما عوامل التاريخ والجغرافيا والمصير المشترك والتفاهم والتعاون لا التنابز والتنافر. فكلا البلدين عمق استراتيجي ومجال حيوي للآخر، وكلاهما يرهن أمن وازدهار الآخر، ولذلك عندما تذهب رسالة بيدرو شانسيز نحو التأكيد على اعتراف إسبانيا بأهمية قضية الصحراء بالنسبة للمغرب، فإن ذلك دليل على المخاض الذي مر منه القرار الإسباني قبل أن يتشكل على هذا النحو ويهتدي إلى المفتاح الذي ستدلف به إسبانيا من جديد إلى شغف قلب المملكة المغربية، وتستعيد ودها المفقود، فالمغرب ملكا، وحكومة، وشعبا، يحكم على صداقة الدول للمملكة انطلاقا من أمر واحد ليس إلا موقفها من وحدته الترابية.

ولهذا، نستطيع أن نقول إن إسبانيا قد أحكمت مصالحتها معنا هذه المرة، ولم تترك لنا سوى أن نبادلها الخطوة الشجاعة بخطوات أكبر منها تصب بالتأكيد في تحقيق رخاء ورفعة البلدين الصديقين.

هكذا تكون إسبانيا بهذا القرار قد أضحت منسجمة مع التوجه الدولي العام الذي يجنح نحو تأكيد السيادة المغربية على الصحراء، خصوصا بعد الاعتراف الأمريكي الحاسم بهذه السيادة. فمن الواضح أنها قد أيقنت أن داء الانفصال معد، وانه مضر للسلام والامن اللذان ينشدهما العالم . وبذلك يكون اصطفافها الى جانب الطرح المغربي الداعي الى تمتيع اقاليمنا الجنوبية بالحكم الذاتي ، واعتباره حلا واقعيا مستداما وذا مصداقية،اعترافا منها بسيادة المغرب على صحرائه، وإذعانا صريحا من طرفها لما تعرفه حق المعرفة في أعماقها مما لديها من وثائق وخبرة بالتاريخ الحقيقي للمنطقة بمغربية الصحراء.

ولعل إسبانيا قد أعملت بعد طول تردد الواقعية السياسية، فراجعت طوال هذه السنة مجموع الأحداث والملابسات التي طبعت توتر علاقتها الدبلوماسية مع المغرب، ولاحظت الحكمة التي تصرف بها المغرب في التعامل مع الوقائع، حيث لمست تماهي العرش والشعب المغربيين بخصوص قضية الوحدة المغربية، لتفهم أنها قضية وجودية بالنسبة لنا يستحيل أن نفرط فيها كمغاربة. ورب ضارة نافعة كما يقول المثل العربي، إذ نكتشف اليوم، كيف شكلت استضافة المدعو إبراهيم غالي بالديار الإسبانية فرصة لإسبانيا لكي تتعرف على مقدار الامتعاض والمضاضة والأذى الذي يتسبب فيه تصرف غير محسوب وغير ودي مثل هذا لدولة ينظر لها المغاربة كجارة لا يجدر يها إلا أن تكون ضمن الدول الصديقة الداعمة لبلادنا.

إن المغرب لا يفكر أبدا في معاداة إسبانيا، وهو الآن لا يطلب منها سوى تعميق أواصر المحبة، وتحقيق المصالح المشتركة، وبناء العلاقات الشفافة الصادقة التي تقوم على الاحترام والتقدير والندية المثمرة التي تجعلهما معا يبدعان في ضمان الاستقرار لمنطقة شمال إفريقيا وجنوب أوروبا.

المغرب قدر دائما حساسية اسبانيا تجاه الدعوات الانفصالية، ورغم حيادها الذي كانت تقول عنه أنه إيجابي بخصوص ملف صحرائنا المغربية، تورع دائما عن ان يعاملها بالمثل، لأن له موقفا مبدئيا من الحركات الانفصالية التي يرى أن لا مصلحة للعالم بأسره من مجاراتها أو تغذيتها، كونها تصب غالبا في أتون التطرف والإرهاب، ولذلك كان يكتفي دائما بأن يظهر لجارته أن القرب الجغرافي بين المملكتين والعلاقات الوشيجة التي تجمع الأسرتين الملكيتين تستحق علاقات أرقى وأمتن بين المغرب وإسبانيا.

كانت إسبانيا ترى في المغرب باستمرار ما نصطلح عليه في العلاقات الدولية بالصديق العدو، أي ذاك البلد الذي يجعل منها شريكه الاقتصادي الأول، والبلد الذي يحميها من تدفقات المهاجرين، ومع ذلك هو في نفس الوقت، بالنسبة لها، البلد الذي تتوجس منه وتحتاط منه كل الاحتياط كي لا ينافسها في استقطاب الصداقة الأمريكية، والبلد الذي تضع له الحصى في حذائه من خلال تبنيها لطرح الاستفتاء المنتهي الصلاحية لجماعة البوليزاريو المتهاوية لشغله وثنيه عن التحول إلى قوة إقليمية ضاربة كما تؤهله لذلك إمكانياته وطموحاته المشروعة.

ويقع كل هذا من طرفها في الوقت الذي كان فيه المغرب المسالم والواثق من نفسه، يمد لها اليد دائما، ويبرهن لها أنه البلد الذي يمكن التعويل على استقراره، وبالتالي على صداقته وتعاونه، أي البلد الذي يريدها صديقا متميزا لاصديقا عدوا. وبالتالي أن تصير بجانبه لا أن تظل في وجهه. هكذا نجح المغرب طيلة عام لوضع حد لهذه العلاقة المحيرة السامة التي تزاوج بين التعاون والخصومة وتعويض بعلاقة تحالف وود حقيقي.

الآن تنقشع الغشاوة عن عين إسبانيا، وتنتصر للود المغربي الذي لم تكن تراه، وينزاح كل سوء الفهم الذي عمر طويلا بيننا، فتتبنى مقاربة جديدة لطالما توخيناها في المغرب، والتي سنجني بالتأكيد ثمارها جميعا. فإسبانيا أحق بالمغرب، والمغرب أحق باسبانيا.

ولذلك من حقنا الآن أن نفرح بكون الأزمة المغربية الإسبانية قد صارت وراء ظهورنا بعد بيان الديوان الملكي المغربي المرحب بقرار حكومة مدريد فتح صفحة جديدة معنا ملؤها التنسيق والتعاون. وأنه ليتعين علينا أيضا، ومن اليوم، الدفن النهائي لشنآن المماحكات القديمة، والاستثمار في رمزية المحطات المضيئة للتاريخ المشترك بينا، للنظر والتطلع بكل وثوقية إلى المستقبل، إذ هناك مجالات وآفاق فسيحة للتعاون بيننا ستجعلنا نأسف على كل يوم قد أضعناه في عدم التفعيل الأمثل لهذه الشراكة الاستراتيجية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News