وجهة نظر

ملاحظات قانونية على مشروع إحداث لجنة مؤقتة لتسيير قطاع الصحافة

ملاحظات قانونية على مشروع إحداث لجنة مؤقتة لتسيير قطاع الصحافة

 في إطار الاشتباك الايجابي مع القضايا الراهنة التي تشغل بال الرأي العام الوطني، ومن زاوية نظر الأكاديمي المتخصص، أود تقديم بعض الملاحظات السريعة والتي لها علاقة بالنقاش الدائر حاليا حول مشروع القانون رقم 15.23 القاضي بإحداث “لجنة مؤقتة لتسيير شؤون قطاع الصحافة والنشر”؛

  • الملاحظة رقم 1: مشروع القانون رقم 15.23 يخرق مقتضيات الفصل 28 من الدستور من ناحية الاختصاص الموضوعي كما خرقها من قبل القانون رقم 90.13 

تعتبر قاعدة الاختصاص من أهم القواعد الموضوعية التي تخضع لها عملية وضع النصوص القانونية بمختلف أصنافها. و ينطلق مبدأ الاختصاص الموضوعي من طرح التساؤل التالي: من المختص بوضع قاعدة قانونية ما في مجال معين؟ وإذا كان الدستور قد تولى تحديد وتوزيع الاختصاصات المتعلقة بمجال تدخل كل من البرلمان (مجال القانون) والحكومة (المجال التنظيمي) من خلال الفصلين 71 و 72، إلا أن التمييز بين هذه المجالات ليس دائما متيسرا بسبب تداخل وتشابك مضامين مجموعة من النصوص القانونية. ولعل هذا ما يجعل المحكمة الدستورية تتدخل عند الضرورة للفصل في النزاعات التي قد تنشأ بهذا الخصوص. غير أن السؤال هنا هو هل القانون (البرلمان) هم المختص بالتشريع لتنظيم قطاع الصحافة والنشر كما هو الحال مع مشروع القانون رقم 15.23؟

  • بالرجوع إلى الدستور، ولاسيما الفصل 28 منه، يظهر أن مجال تنظيم القطاع المذكور، حسب إرادة المشرع الدستوري، ليست من مجالات اختصاص القانون، على الرغم من أن الفصل 71 (نص عام) يجعل من اختصاصه التشريع في مجال الحقوق والحريات. وذلك في رأيي لأن المشرع الدستوري حسم في جهة الاختصاص من خلال الفصل 28 (نص خاص) الذي ينص على ما يلي: “…تشجع السلطات العمومية على تنظيم قطاع الصحافة، بكيفية مستقلة، وعلى أسس ديمقراطية، و على وضع القواعد القانونية والأخلاقية المتعلقة بها”. إن دور السلطة التنفيذية هنا حسب إرادة المشرع هو التشجيع على التنظيم فقط، وليس مصادرته كما في مشروع القانون رقم 15.23. و بالرجوع إلى أحد معاجم اللغة العربية (معجم المعاني الجامع) نجد أن عبارة “التشجيع” الواردة في الفصل الدستوري المذكور هي لا تعني سوى (الحث وتذييل الصعاب، و تسهيل الأمر، وبعث الرغبة في العمل، و توفير الظروف للنجاح). وتجدر الإشارة هنا أن العبارة المشار إليها (التشجيع) تنصرف من جهة على التنظيم بشكل مستقل وديمقراطي، ومن جهة ثانية على وضع القواعد القانونية والأخلاقية! ومنه يتبين أن مشروع القانون رقم 15.23 القاضي بإحداث لجنة مؤقتة لتسيير شؤون قطاع الصحافة والنشر يعيد إنتاج مسار “الانحراف التشريعي” الذي سقط فيه القانون رقم 90.13 الذي لم يحترم مضمون الفصل 28 من الدستور، لاسيما الفقرة الثالثة منه السالفة الذكر. بالمقابل المشرع الدستوري لم يجعل من مجال القانون (البرلمان) سوى ما يتعلق بالإعلام العمومي حين نص صراحة في الفقرة الرابعة من الفصل المذكور على ما يلي: “يحدد القانون قواعد تنظيم وسائل الإعلام العمومية ومراقبتها…”. وبالتالي، فباستثناء هذا الصنف الحكومي، فمسألة تنظيم قطاع الصحافة والنشر متروكة لأهل الدار من المهنيين.
  • إلغاء مشروع القانون رقم 15.23 للمجلس الوطني للصحافة “المنتخب” ونقل صلاحياته للجنة إدارية مؤقتة “معينة”، يتنافى مع الفصل 28 من الدستور الذي يؤكد على مبدأ التنظيم الذاتي، ويجعل السلطة التنفيذية تبدو وكأنها تستعجل وضع يدها على قطاع الصحافة والنشر من الناحية التنظيمية والتأديبية. وحتى إذا ما تحجج البعض بأن المهنيين هم ممثلون داخل اللجنة الإدارية المؤقتة عبر رئيس المجلس الوطني للصحافة المنتهية ولايته ونائبه، ورئيس لجنة أخلاقيات المهنة والقضايا التأديبية، و  رئيس لجنة بطاقة الصحافة المهنية، إلا أنهم ليسوا أغلبية ضمن تركيبة اللجنة التي تتكون من 9 أعضاء وتتخذ قراراتها بشكل تداولي. ومما ينم عن عزم الحكومة  “الوصاية” شبه المباشرة على قطاع الصحافة والنشر أنها لم تجعل من مهام اللجنة فقط ممارسة مهام المجلس الوطني المنتهية ولايته بشكل مؤقت إلى حين التحضير للانتخابات الخاصة بأعضائه، إنما أضافت لها صلاحية استراتيجية تستبطن الرغبة في وضع تصور جديد لتنظيم القطاع يظهر فيه المهنيون و كأنهم مجرد شريك وليسوا هم الأحق بوضع تصورهم بشكل مستقل عن أية وصاية أو توجيه كما يوصي بذلك الفصل 28 من الدستور، والذي لا يجب أن ننسى أنه تكثيف لمبادىء معيارية  يؤمن بها المشرع الأسمى فيما يتعلق بتنظيم قطاع الصحافة والنشر ببلادنا. لقد كان الأولى تمديد ولاية المجلس الوطني الحالي لفترة إضافية إلى حين إجراء انتخابات التجديد حتى يتم الانسجام مع فكرة التنظيم الذاتي للقطاع على الأقل من الناحية الإجرائية.
  • الملاحظة رقم 2 : مشروع القانون رقم 15.23 يخرق قاعدة تراتبية القواعد القانونية 

قاعدة تراتبية القواعد القانونية هي من أهم القواعد التي يجب احترامها في التشريع، على اعتبار أن النظام القانوني هو بمثابة بناء يتكون من عدة طوابق، و  يخضع لهرمية وتراتبية محددة. فهناك ثلاثة أنواع رئيسية من التشريعات المتدرجة في قوتها و تراتبيتها من القمة إلى القاعدة، بحيث نجد الدستور ( أو التشريع الأساسي) ثم القانون ( أو التشريع العادي) ثم المجال التنظيمي (أو التشريع الفرعي). وقد حمى الدستور من خلال الفصل 6 منه هذه التراتبية بين القوانين، حيث ينص على ما يلي : ”…تعتبر دستورية القواعد القانونية و تراتبيتها (…) مبادئ ملزمة“. و وفقا لهذا المبدأ الدستوري لا يمكن لنص أدنى أن يناقض مقتضيات نص أسمى منه قانونيا. وعدم احترام هذا المبدأ يعد من أسباب عدم مشروعية النصوص القانونية أمام المحكمة الدستورية، باعتبارها الجهة القانونية المكلفة بضمان احترام مبدأ السمو القانوني للنصوص القانونية على بعضها البعض. وبالنسبة لمشروع القانون رقم 15.23 القاضي بإحداث لجنة إدارية لتسيير قطاع الصحافة والنشر فنجده من هذه الزاوية يتناقض مع مقتضيات الفصل 28 من الدستور التي تنص على ضرورة التنظيم الذاتي من قبل المهنيين.

  • الملاحظة رقم 3: فشل تجربة المجلس الوطني للصحافة هو راجع بشكل كبير إلى عدم اعتراف القانون رقم 90.13 باستقلاليته عن السلطة التنفيذية !

ما يقع حاليا على مستوى تنظيم قطاع الصحافة والنشر، هو راجع بشكل كبير إلى الإشكالات القانونية التي طرحها القانون رقم 90.13 القاضي بإحداث المجلس الوطني للصحافة؛

  • النص التشريعي المذكور لم يوضح الطبيعة القانونية للمجلس، حيث أكد فقط أنه يتوفر على الشخصية المعنوية والاستقلال المالي، في حين لم يعترف له بوضع “الهيئة المستقلة” كما هو الحال بالنسبة لباقي  الهيئات المهنية الأخرى (كهيئة الأطباء، و هيئة الصيادلة، و هيئات المحامين، و هيئة الموثقين) التي نصت قوانينها على أنها هيئات مستقلة، وبالتالي لا تخضع لأية وصاية من قبل السلطات الحكومية رغم أنها تقوم بمهام المرفق العام، وتتوفر على امتيازات السلطة العامة التي تتيح لها إصدار قرارات إدارية، فردية وتنظيمية، تمس بشكل مباشر المصالح المادية والمعنوية للمنتمين لها. وبالرجوع إلى المادة 2 من القانون رقم 90.13 نجدها تؤكد عدم استقلالية المجلس الوطني للصحافة عن السلطة التنفيذية ما دامت تنص على أن نظامه الداخلي لا يكون نافذا إلا بعد المصادقة عليه بمرسوم. ولعل هذا الوضع القانوني الهش للمجلس هو الذي جعل مجموعة من الفرق البرلمانية تتقدم بمقترح قانون بتاريخ 18/01/2023 لتغيير وتتميم القانون رقم 90.13 ضمنته من خلال المادة 4 اقتراح تعيين رئيس المجلس الوطني للصحافة من قبل الملك كضمانة للاستقلالية. وهو اقتراح على كل حال ينسجم مع الثقافة القانونية المغربية التي ترى في التعيين الملكي إحدى الضمانات الأساسية في هذا الباب، كما هو الشأن مثلا بالنسبة للهيئات الدستورية المستقلة.
  • لم يوضح القانون رقم 90.13 صراحة هل المجلس الوطني للصحافة هو هيئة عامة أم خاصة؟ غير أنه من خلال الاطلاع على نصوصه يتبين أن المجلس هو بالتأكيد شخص من أشخاص القانون العام (هيئة عامة) للاعتبارات التالية:
  1. خضوع نظامه الداخلي للمصادقة المسبقة من قبل الحكومة كما أسلفت سابقا (المادة 2).
  2. تركيبته التي تضم مندوبين عن مؤسسات دستورية، هي الحكومة، المجلس الأعلى للسلطة القضائية، المجلس الوطني لحقوق الانسان، والمجلس الأعلى للغات والثقافة المغربية (المادة 4).
  3. إمكانية خضوع قراراته التأديبية لرقابة القضاء الإداري (المادة 52).
  4. تفعيل مقتضيات مدونة تحصيل الديون العمومية المتعلقة بالتحصيل الجبري لاشتراكات المؤسسات الصحفية في حالة عدم الأداء (المادة 20).
  • الملاحظة رقم 4 : إن طريقة تنظيم قطاع الصحافة والنشر التي جاء بها مشروع القانون رقم 15.23 تتناقض جذريا مع المعمول به في بعض التجارب المقارنة الرائدة في المجال!

لقد كان على السلطات التنفيذية حث مهنيي قطاع الصحافة والنشر في البلاد على خلق “جمعية” في إطار ظهير الحريات العامة لسنة 1958 كما تم تغييره وتعديله، على اعتبار أنها الإطار القانوني الأنسب لتفعيل الفصل 28 من الدستور الذي أكد على مبدأي “الاستقلالية” و”الديمقراطية” في تنظيم شؤون هذا القطاع الحر، مع العمل على تشجيعها عن طريق الاعتراف لها بصبغة المنفعة العامة  (كما هو الحال مثلا بالنسبة لقطاع الرياضة). أما تشكيل لجنة إدارية معينة لتدبير شؤون قطاع الصحافة والاعلام ولو كانت مؤقتة ، كما هو حال مشروع القانون رقم 15.23، أو إعادة إنتاج تجربة المجلس الوطني للصحافة والنشر كهيئة غير مستقلة و خاضعة لوصاية السلطة التنفيذية كما هو حال القانون رقم 90.13، فهو يتنافى مع مبدأ “التنظيم الذاتي” المنصوص عليه دستوريا كما أسلفت، ويتناقض مع ما هو معمول به في التجارب المقارنة الرائدة، مثل النموذج البلجيكي والفرنسي حيث اختار فيهما المهنيون والدولة اعتماد نظام “الجمعية” لأنه يضمن التدبير الذاتي المستقل والديمقراطي، سواء على مستوى التنظيم أو التأديب، ولأنه كذلك يحصن السلطات العمومية من التواجد غير المرغوب فيه كطرف في التنافس المهني والفكري بين المنتمين لقطاع الصحافة والنشر.

  • على سبيل الختم، نتمنى إذا ما تم التمسك بمشروع القانون رقم 15.23 القاضي بإحداث اللجنة المؤقتة لتسيير شؤون قطاع الصحافة والنشر”، وقام البرلمان بمجلسيه بإقراره من دون تعديلات جوهرية، أن يتم تحريك الآليات الدستورية لمنع هذا الانحراف التشريعي قبل إصدار الأمر بتنفيذ القانون. ويتعلق الأمر بطلب القراءة الجديدة له (الفصل 95 من الدستور)، أو إحالته على المحكمة الدستورية للبت في مدى مطابقته للدستور (الفصل  132 من الدستور).  أما إذا ما تم إقراره بإصدار الأمر بتنفيذه،  فيمكن التصدي له عن طريق “الدفع بعدم الدستورية” أمام القضاء في حال إقرار القانون التنظيمي المتعلق به (الفصل 133 من الدستور).

أستاذ القانون الإداري- عضو مختبر الدراسات والأبحاث في القانون الدستوري والعلوم السياسية و الاجتماعية، جامعة الحسن الثاني-الدار البيضاء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News