رغم التوجيهات الملكية.. استثمارات المقاولات العمومية تكرّس “مغرب السرعتين”

رغم الدعوات الملكية المتكررة إلى تحقيق العدالة المجالية ووضع حد لمنطق التنمية بسرعتين، تكشف معطيات مشروع قانون المالية لسنة 2026 استمرار تمركز الاستثمارات العمومية لدى عدد محدود من المؤسسات العمومية، وفي جهات بعينها، مما يكرس التفاوتات الترابية والقطاعية في توزيع الاستثمار العمومي.
وبلغ إجمالي استثمارات المؤسسات والمقاولات العمومية خلال سنة 2024، حسب تقرير المقاولات والمؤسسات العمومية، حوالي 101.4 مليون درهم، مقابل 81.2 مليون درهم سنة 2023، أي بارتفاع قدره 25%، في مؤشر على انتعاش قوي للاستثمار العمومي مدفوع بإطلاق أوراش كبرى في مجالات البنيات التحتية والطاقة والانتقال الأخضر، إلى جانب التحضيرات لكأس العالم 2030.
غير أن هذه الدينامية تخفي تركزاً لافتاً في حجم الاستثمارات، إذ تستحوذ، وفق التقرير الذي اطلعت عليه جريدة “مدار21″، تسع مؤسسات فقط على أكثر من 75% من مجموع الاستثمارات العمومية خلال سنة 2024.
ويتصدر القائمة المجمع الشريف للفوسفاط الذي أنجز لوحده مشاريع استثمارية بقيمة 43.6 مليون درهم، أي ما يعادل 40% من المجموع، يليه كل من الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين (6.9 ملايين درهم)، والمكتب الوطني للكهرباء والماء (6.8 ملايين درهم)، ومجموعة العمران (5.5 ملايين درهم)، وصندوق الإيداع والتدبير (4.3 ملايين درهم)، ثم المكاتب الجهوية للاستثمار الفلاحي وشركة الرباط الجهة للتهيئة والمكتب الوطني للسكك الحديدية والوكالة الخاصة طنجة المتوسط، بحصص متفاوتة.
وتتوقع الحكومة أن يواصل هذا المنحى التصاعدي خلال سنة 2025، مع بلوغ الاستثمارات قرابة 169.2 مليون درهم بزيادة قدرها 28%، ثم 179.7 مليون درهم سنة 2026 (+6%)، غير أن هذه الدينامية تظل متمركزة لدى نفس المؤسسات الكبرى، في مقدمتها المجمع الشريف للفوسفاط (52.5 مليون درهم)، والمكتب الوطني للسكك الحديدية (20.5 مليون درهم)، والشركات الجهوية متعددة الخدمات (19.5 مليون درهم)، والمكتب الوطني للكهرباء والماء (17.1 مليون درهم)، ومجموعة العمران (7.6 ملايين درهم).
وبينما يتوقع أن تنخفض الاستثمارات سنة 2027 إلى 158.9 مليون درهم، فإنها ستتعافى مجدداً سنة 2028 لتبلغ 167.5 مليون درهم، ما يعكس استمرار دور هذه المقاولات في قيادة الأوراش الوطنية الكبرى، دون أن يواكب ذلك توسع فعلي في قاعدة الجهات والمناطق المستفيدة.
تمركز جهوي يفاقم الفوارق
ويبرز التحليل الجهوي لتوزيع الاستثمارات المتوقعة خلال سنتي 2025 و2026، وفق المصدر نفسه، استمرار التمركز في ثلاث جهات كبرى تستحوذ على نحو 64% من مجموع الاستثمارات، وهي الدار البيضاء–سطات (30.6%) والرباط–سلا–القنيطرة (19.4%) ومراكش–آسفي (13.6%). ما يعكس استمرار التوجه نحو الاستثمار في الأقطاب الحضرية التي استفادت تاريخياً من تجهيزات وبنيات تحتية ومشاريع كبرى.
وفي المقابل، وإذا كانت بعض الجهات على غرار جهة الشرق وبني ملال – خنيفرة وفاس مكناس، قد سجلت تطوراً إيجابياً وإن كان طفيفا، في حصصها الاستثمارية ما بين سنتي 2025 و2026، فإن جهات أخرى مثل درعة تافيلالت وسوس-ماسة وكلميم-واد نون والداخلة-وادي الذهب، مازالت تستفيد من حصص أقل بكثير، غالباً ما تكون دون نسبة 3% من إجمالي الاستثمار، مما يفاقم التفاوتات بين الجهات ويبرز حدود الأثر التوزيعي للاستثمارات العمومية الحالية.
وتأتي هذه الأرقام في سياق دعوة ملكية صريحة وجهها الملك محمد السادس في خطاب العرش ليوليوز 2025، حث فيها على “القطع مع منطق التنمية بسرعتين، والعمل على تحقيق نهضة مجالية حقيقية تضمن العدالة والإنصاف بين مختلف الجهات”.
وأشار التقرير إلى أنه “أصبح من الضروري تحقيق انسجام أكبر بين مخططات استثمار المؤسسات والمقاولات العمومية. وآليات تعبئة العقار العمومي والاستراتيجيات الجهوية للتنمية، بما يضمن تقارب الجهود العمومية في اتجاه إعادة التوازن الترابي، وتمكين الجهات ذات الكثافة الاستثمارية المنخفضة، خاصة بالمناطق القروية والثانية، من استثمار مؤهلاتها الترابية”.
ويتعين، بحسب المصدر ذاته، “إدماج معايير الأثر الترابي والعدالة المجالية، إضافة إلى الانسجام مع أهداف الجهوية المتقدمة، بشكل منهجي في عمليات التخطيط والتحكيم المتعلقة بالاستثمارات العمومية، وبعد هذا التحول الاستراتيجي شرطاً أساسياً في تجسيد الرؤية الملكية المغرب متضامن ومندمج وعادل، حيث تعود ثمار التنمية بالتقع على جميع المواطنين دون إقصاء أو تفاوت”.