ما بعد التمثيلية كأداة تحليلية: لماذا يرفض جيل زد الوساطة التقليدية؟

باحث في علم الاجتماع
أبدت الاحتجاجات الأخيرة “لجيل زد” رفضا واضحا لمحاولة فتح باب الحوار المباشر مع الحكومة، كما قوبلت مختلف مبادرات الوساطة حتى اللحظة بالرفض، معتبرينها مجرد محاولة لإعادة إنتاج نفس الممارسات السياسية التي خرجت لأجلها هذه الاحتجاجات. يعكس هذا الموقف بوضوح حجم أزمة التمثيلية السياسية في المغرب، والتي تتمثل في مؤشرات ضعف قدرة الفاعل السياسي على الإقناع إبان الأزمات، حيث لم يعد طيف واسع من المغاربة يعول على الوساطة التقليدية، بل بات يتخطاها نحو إعادة تشكيل عالمه الخاص عبر الفضاءات والقنوات الرقمية.
عرف المغرب خلال العقد الأخير تحولات عميقة على مستوى السلوك الاحتجاجي، ارتبطت أساسا ببروز عالم الشبكات كفضاء لإعادة إنتاج الخطاب الاجتماعي وتنظيم العلاقات والروابط والتفاعلات، وأشكال الحضور في الفضاء العام. ففي سنة 2018 -على سبيل المثال- برزت إلى الواجهة حملة المقاطعة كنموذج دال على “الاحتجاج الرقمي”، والتي أفرزت دينامية احتجاجية غير مرتبطة ببنية تنظيمية، وغير ممأسسة، لا تقودها أحزاب أو نقابات، ولا قيادات مركزية، بل تتغذى على لغة ساخرة وكرنفالية تناهض سلطة النخب السياسية والاقتصادية.
وقد تكررت هذه الدينامية في عدد من النماذج الاحتجاجية الفئوية، خاصة تلك التي قادها -الطلبة الأطباء والأساتذة- وصولا إلى احتجاجات “جيل زد”، والتي كشفت بوضوح عن وجود “أزمة تمثيلية” غير مسبوقة في تاريخ المغرب المعاصر؛ أزمة لا تتجلى في فقدان الثقة فحسب بل تتجاوزها نحو غياب بدائل سياسية أخرى قادرة على ملء الفراغ، أو على الأقل لعب دور “رجل إطفاء حزبي” قادر على تدبير الأزمة أو تأجيلها إلى حين استعادة الفاعل الحكومي بعضا من القبول الاجتماعي، أو إلى حين انتهاء ولايته أو على الأقل استرجاع الخطاب الحزبي شيئا من شرعيته التواصلية.
لم تكن النماذج الاحتجاجية مجرد مطالب فئوية أو قطاعية، بل إشارة واضحة عن وجود أزمة بنيوية مؤجلة تعرفها المنظومة التمثيلية برمتها، في ظل غياب بدائل قادرة على احتواء هذا التحول الذي ظل الفاعل السياسي يتجاهله وينكره على نحو متعال عن دينامية الشارع.
سمحت بيئة التكنولوجيا الرقمية، على نحو مثير للاهتمام، بتجاوز عتبة المركزية في اتخاذ القرار الاحتجاجي، وتجاوز نظام النجومية الذي ارتبط تاريخيا بمجتمع القيادة وأشكال النضال الهرمي كالتنظيمات النقابية والأحزاب والجمعيات، إلخ. فقد بلورت شبكات التواصل الاجتماعي نمطا مغايرا يكمن في سلوك تنظيمي ضد النجومية (Anti-star)، حيث باتت الحركات الاحتجاجية بلا قادة ولا متحدثين رسميين، أي -قيادة منزوعة الرأس/الرئاسة- أو بالأحرى قيادة أفقية يجسدها “فاعلون شبكيون” (Admins) يتميزون بمهارات عالية في التدوين والتعبئة، حيث تتحول الميمات والوسوم -هاشتاغات- والفيديوهات الساخرة إلى أدوات للتعبئة وإرباك الخطاب السياسي، واستبعاد رموزه في الفضاء العام، دون أن الحاجة إلى التمركز حول شخصية قيادة بعينها أو على الأقل قيادات معلومة. مما يضع الفاعل السياسي في مأزق حقيقي: فعندما يقرر فتح باب الحوار، يجد نفسه أمام حركة بلا وجه، واحتجاج بلا قيادة، ومطالب بلا وسطاء…فمع من سيتحاور إذا؟
في السياق ذاته، دعت الحكومة هؤلاء الشباب إلى فتح قنوات الحوار، كما حاولت مجموعات شبابية محسوبة على الأحزاب السياسية لعب دور الوساطة، بل دعا بعض صناع المحتوى إلى تأسيس حزب سياسي جديد، لكن كل هذه المحاولات قوبلت إلى حدود اللحظة بالرفض والاستهجان، وهو ما اعتبرها “جيل زد” محاولة لاستغلال مطالبهم وممارسة نوع من الركمجة السياسية. هذا الرفض يعكس مشروعية ووجاهةمفهوم “ما بعد التمثيلية” كأداة تحليلية لفهم أزمة الشارع، إذ يواجه الفاعل السياسي في الوقت الراهن أزمة عميقة في القدرة على إقناع المواطنين، حتى بأبسط القضايا.
على ما يبدو، فقدت تجربة المداورة السياسية، بصيغتها الحالية ووفق البروفيل السياسي السائد، قدرتها على مواكبة تحديات المرحلة الراهنة. -ودون مغامرة معرفية-، يلاحظ أن المجتمع يتجه بوتيرة سريعة نحو ما يمكن وصفه، بـ”مجتمع ما بعد التمثيلية“، وهو أكثر النماذج الاجتماعية هشاشة وفوضوية وخطورة، إذ يختار هذا المجتمع في كل أزماته الكبرى تجاوز قنوات الوساطة التقليدية -حكومة ومعارضة-، حيث يعجز الفاعل السياسي أو التنظيمي من إقناع المتظاهرين بأي سردية كانت، بل ودون أن تحظى لديهم بأي اعتبار يذكر، حيث يفضل هؤلاء المتظاهرون تنظيم سلوكهم السياسي والاجتماعي خارج نطاق المجموعات التقليدية، مثل التنسيقيات مثلما هو الحال في حالة الأساتذة، غير أن “جيل زد” وإلى حدود الساعة، قد تفرز أنماطا تنظيمية مغايرة، عابرة للمجموعات، إذ لا يستبعد أن تتحول منصات رقمية مثل “ديسكورد” إلى فضاءات للحوار مع الفاعل الحكومي.
في الختام، يمكن القول إن غياب التمثيلية السياسية لا يلغي السياسة، بل يعيد تشكيلها خارج المؤسسات التقليدية. غير أن الخطر يكمن في أن الفراغ التمثيلي، إذا استمر من دون إعادة بناء قنوات وساطة جديدة قادرة على الإقناع، قد يتحول إلى مصدر فوضى وعجز عن تحويل المطالب الاجتماعية إلى سياسات عمومية مستجيبة لحاجات المواطنين. إن التحدي لا يكمن في منع الاحتجاجات أو تقييدها، بل في ابتكار صيغ جديدة للوساطة، قادرة على استيعاب منطق الشبكات، والتفاعل مع تطلعات الأجيال الصاعدة. كما أن غياب التمثيلية السياسية لا يبرر مطلقا الفوضى أو العنف، والحفاظ على الأمن مسؤولية الجميع.