رأي

النموذج التنموي الجديد بين طموحات الخطاب الملكي وتعثرات الواقع

النموذج التنموي الجديد بين طموحات الخطاب الملكي وتعثرات الواقع

في خطاب العرش لسنة 2025، أعاد جلالة الملك محمد السادس التذكير بالنموذج التنموي ولو من باب الإشارة، هذه المرة ليس كإطار نظري بل كصرخة سياسية صريحة تنبه إلى الاختلالات البنيوية في السياسات الاجتماعية والتنموية، وتنتقد صراحة محدودية التنفيذ، رغم وفرة المخططات ووفرة البرامج.

هذا الأمر يجعل هذا الخطاب لحظة فارقة، ليس فقط العودة للحديث عن النموذج التنموي، بل الربط الصريح بين التنمية الاقتصادية وبين العدالة الاجتماعية والمجالية، مع إشارة واضحة بأن البنيات التحتية وحدها لا تكفي، إن لم تترجم إلى تحسين ملموس في شروط عيش المواطن المغربي، في المدن كما في القرى، وفي المركز كما في الهامش.
لقد قال جلالة الملك بكل وضوح:

“لن أكون راضيا، مهما بلغ مستوى التنمية الاقتصادية والبنيات التحتية، إذا لم تساهم، بشكل ملموس، في تحسين ظروف عيش المواطنين، من كل الفئات الاجتماعية، وفي جميع المناطق والجهات.”

هذه الجملة تختزل فلسفة جديدة للتنمية: قوامها الإنسان لا المؤشرات، وغايتها الكرامة الاجتماعية قبل الحسابات الرقمية، تنمية تضع القيمة الإنسانية في قلب السياسات، بدل الارتهان للأرقام والنسب المجردة.
وأضاف جلالته في السياق نفسه:

“ما تزال هناك بعض المناطق، لاسيما بالعالم القروي، تعاني من مظاهر الفقر والهشاشة، بسبب النقص في البنيات التحتية والمرافق الأساسية.”

بهذه العبارات، يسائل الخطاب الملكي أداء الدولة والفاعلين حول استمرار مغرب بسرعتين: مغرب المراكز الحضرية المستفيدة من الدينامية الاقتصادية، ومغرب الهوامش الذي يعيش الإقصاء البنيوي والفقر متعدد الأبعاد.

دعوة جلالة الملك إلى الانتقال من المقاربات الاجتماعية التقليدية إلى مقاربة تنموية مجالية مندمجة، تعكس وعيا سياسيا بأن المعضلة لم تعد فقط في فقر الأفراد، بل في التفاوتات المجالية الممنهجة، وبأن برامج الدعم المباشر والحماية الاجتماعية ينبغي أن تكون جزءا من هندسة شاملة لإعادة توزيع الثروة وتنمية المناطق المهمشة.

منذ سنة 2019، أُسندت إلى اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي مهمة بلورة تصور جديد قادر على مواكبة تحولات المرحلة وتجاوز أعطاب النموذج السابق. وقد اعتمدت اللجنة منهجية تشاركية واسعة، منفتحة على مختلف فئات المجتمع، وقدمت رؤية استراتيجية متكاملة لبناء “مغرب الإدماج، مغرب الكفاءات، مغرب الاستدامة”.
غير أن ما يثير التساؤل اليوم هو الغياب الملحوظ لهذا التقرير عن دائرة الفعل العمومي، وتراجع حضوره في البرامج الحكومية والمشاريع التنموية الكبرى. لماذا خفت صوت هذه الوثيقة المرجعية؟ وهل تحولت إلى مجرد إعلان نوايا، بدل أن تترجم إلى سياسات ملموسة تحدث الأثر المنتظر؟

ظل جلالة الملك في خطاباته، من 2017 إلى 2025، يؤكد أن “المشاكل معروفة، والأولويات واضحة، ولا نحتاج إلى المزيد من التشخيصات”. التحدي، إذن، لم يعد في المعرفة، بل في الإرادة القوية، في التنفيذ الجيظ، في المراقبة الناجعة، في ربط المسؤولية بالمحاسبة كمبدإ دستوري، وفي الجرأة على الخروج عن “المألوف الإداري”.
لا يمكن تحميل الدولة وحدها مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع الاجتماعية. فالأحزاب السياسية، على مر السنوات، فقدت تدريجيا قدرتها على بلورة مشاريع مجتمعية واقعية ومتماسكة، واكتفت بلعب دور تنفيذي تابع في تفعيل السياسات العمومية التي تقرها الدولة. هذا الانسياق أفقدها موقعها كوسيط فعّال بين المواطن ومراكز القرار، وجعلها منشغلة بأجندات انتخابية قصيرة المدى، بدل الانخراط في قضايا المواطنين الحقيقية والانتصار لرهانات التنمية والديمقراطية على المدى البعيد.

النموذج التنموي الجديد ليس وثيقة تقنية، بل هو عقد اجتماعي جديد يتطلب التزاما سياسيا ومجتمعيا جماعيا. ومضامين خطاب العرش لهذا العام تضع الجميع أمام مسؤوليته: الدولة، الحكومة، الجماعات الترابية، المؤسسات العمومية، الأحزاب السياسية، المجتمع المدني، بل وحتى المواطن نفسه، في تغيير العقليات والمساهمة في التحول.

إن المغرب اليوم في حاجة إلى نقلة نوعية في التنمية المجالية، لا فقط استمرار في الأوراش المهيكلة المعزولة. فالمملكة لن تنهض بجناح واحد، بل بتكامل الجهات، ورفع التفاوتات، وتحقيق الاندماج المجتمعي. لذلك، فإن التوجيهات الملكية لا يجب أن تبقى مجرد تذكير سنوي في خطاب العرش، بل يجب أن تتحول إلى مرجع ملزم لكل سياسة عمومية.

فالعدالة المجالية ليست ترفا سياسيا أو مطلبا ثانويا، بل تمثل ركيزة أساسية لبناء دولة عادلة وقوية، ومجتمع متماسك ومندمج، واقتصاد فعال ومستدام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News