أين ذهبت المعارضة؟ عن فشل الأحزاب السياسية في ممارسة دورها الرقابي

حين تفشل أحزاب المعارضة المغربية في تقديم ملتمس رقابة، رغم السياق الاجتماعي والسياسي الحرج، فالمشكلة لا تتعلق فقط بحسابات عددية أو مواقف ظرفية، بل تنذر بأزمة أعمق، تتعلق بفقدان السياسة نفسها معناها، وبانهيار أحد أعمدة التوازن داخل الدولة: وظيفة المعارضة.
كيف يمكن فهم صمت وفشل الأحزاب التي من المفترض أن تلعب دور الميزان داخل النظام السياسي؟ هل هو تكتيك سياسي؟ أم عجز بنيوي؟ أم رضوخ ضمني لمنطق التوافقات المغشوشة؟ إن ما نعيشه اليوم هو نتاج مسار طويل من التفكك الإيديولوجي، والانزلاق نحو الزبونية، وغياب الرؤية.
الأحزاب السياسية، حسب المدرسة الوظيفية في علم السياسة، هي وسائط أساسية بين الدولة والمجتمع، مهمتها بلورة المصالح الشعبية وتحويلها إلى سياسات. لكنها في السياق المغربي، تحولت إلى واجهات انتخابية، لا تنتج لا أفكارًا ولا معارضات. لم تعد تعبيرًا عن مشاريع مجتمعية أو رؤى بديلة، بل أضحت مجرد أدوات للوصول إلى الريع السياسي، والمحافظة على مواقع رمزية داخل النظام.
غياب ملتمس الرقابة هو عرضٌ من أعراض هذا الفقدان العام للهوية. الأحزاب المعارضة، وعلى رأسها تلك التي تُصنف يسارية أو تقدمية، لم تعد قادرة حتى على تبني موقف رمزي يعبر عن الحد الأدنى من الاختلاف السياسي. لم نعد أمام “معارضة بنّاءة” أو حتى “معارضة شكلية”، بل أمام انقراض تدريجي للوظيفة نفسها.
يبدو أن جزءًا من الطبقة السياسية المغربية لم يعد يؤمن بفكرة “المعارضة” كمؤسسة ديمقراطية، بل كحالة عابرة في انتظار الدخول إلى الحكومة. إنها رؤية تقويضية تُفرغ الممارسة السياسية من مضمونها، وتحوّل البرلمان إلى غرفة صدى، لا صوت فيها إلا للإجماع المصطنع.
تفسير هذا الانحدار لا يمكن فصله عن منطق “التحكم السياسي” الذي أنتج أحزابًا وظيفية، هجينة، تفتقر إلى الشرعية الفكرية، وتمت صناعتها أو تفريغها لتأدية أدوار مرحلية. كما لا يمكن إغفال أثر نمط الاقتراع، وتركيبة البرلمان، وآليات الضبط السياسي، التي جعلت من الاختلاف السياسي مخاطرة أكثر منه ممارسة طبيعية.
لكن، وفي المقابل، لا يمكن تبرئة الأحزاب نفسها. لقد ساهمت، باختيارها، في قتل السياسة. هجرت التأطير، وتخلّت عن قواعدها، وذهبت إلى التموقع الانتخابي السهل، عبر شبكات الولاء الزبوني، بدل التأسيس لحركات مجتمعية حقيقية. لم تعد الأحزاب تُكوِّن مناضلين، بل مرشحين. لم تعد تنتج أفكارًا، بل شعارات. وهنا تكمن الخسارة الأكبر.
في سياق كهذا، تصبح الرقابة البرلمانية، مثلها مثل النقاش العمومي، رفاهية لا مكان لها. ومن الطبيعي أن يختفي ملتمس الرقابة، وتصبح المعارضة غير قادرة حتى على تسجيل موقف سياسي رمزي. ويصبح الصمت هو التعبير الأصدق عن الفراغ الذي يعيشه المشهد الحزبي.
المفارقة أن الدستور المغربي، خاصة في فصله 105، منح المعارضة وضعًا متقدمًا، واعترف لها بأدوار مركزية في التشريع والمراقبة والتقييم. لكن الممارسة الواقعية كرّست عكس ذلك تمامًا، في ظل برلمان فقد ديناميته، وأحزاب فقدت بوصلتها.
إذا كنا نعيش فعلاً مرحلة ما بعد السياسة، فإن أول ملامحها هو هذا الموت البطيء للمعارضة. موت لا يعلن نفسه بضجيج، بل بصمت مطبق، وبعجز عن تقديم حتى ملتمس رقابة، رغم التدهور الاقتصادي، وغلاء الأسعار، وتراجع الخدمات الاجتماعية.
لقد حان الوقت لإعادة بناء الحياة الحزبية من الأساس، على قاعدة الوضوح الإيديولوجي، والجرأة في التموقع، والقطع مع منطق الريع الانتخابي. فبلد بلا معارضة هو بلد بلا ميزان، وبلد بلا توازن هو بلد يزحف، بصمت، نحو السلطوية المقنعة.