اليسار الجديد بالمغرب (2).. المنظمات الجماهيرية تتحول إلى بؤر ثورية

بعد استحضار السياق العام العالمي والإقليمي والوطني الذي أدى إلى بروز منظمات اليسار الجديد في المغرب، بدأ اليساريون المغاربة المتشبعون بالأحلام الثورية والمندفعون نحو إقامة الدولة الاشتراكية، على نهج السوفيات والصينين، في العمل الثوري، مستفيدين من انتمائهم إلى الفئات المثقفة من طلبة وأساتذة ومهندسين وأطر عليا، مما سرع انتشار الأفكار الثورية والتصور عن المجتمع المنشود.
هذه الفئات المملوءة بالحماس والأحلام، التي رأت أن الأحزاب المحسوبة على الحركة الوطنية إما رجعية إو إصلاحية، وأنها تفتقر للقدرة على تأطير الجماهير المغربية والسير بها إلى غاية إسقاط نظام الحسن الثاني وإقامة النظام الاشتراكي البديل، عبر حزب البروليتاريا وحلفائها الموضوعيين، سرعان ما سارعت إلى الاشتغال على عدة واجهات، خاصة عبر الحرص على التواجد بالمنظمات الجماهيرية التي حولتها إلى بؤر ثورية.
نضالات الطلبة والتلاميذ..
وركزت المنظمات الماركسية اللينينية المغربية عملها بشكل كبير في الحركة الطلابية وإطارها النقابي الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، وكذا الحركة التلاميذية من خلال النقابة الوطنية السرية للتلاميذ. وهو ما تجلى أساسا في هيمنة “الطلبة الجبهويون” المنتمون إلى كلا من منظمة إلى الأمام ومنظمة 23 مارس على المؤتمر الخامس عشر للنقابة الطلابية “أوطم”.
بعد بروز منظمة “23 مارس” بتاريخ 30 مارس 1970، و”إلى الأمام” بتاريخ 30 غشت 1970، ظهرت مع انعقاد المؤتمر الرابع عشر للاتحاد الوطني لطلبة المغرب لائحة “جبهة الطلبة التقدميون” بكلية الآدب بالرباط، كما تقدم منتمون آخرون للحركة بمجموعة من المعاهد والكليات بلوائح مشتركة وبأسماء مختلفة، وهم من سيحملون بعد ذلك اسم “الجبهة الموحدة للطلبة التقدميين” كتنظيم شبه جماهيري للحركة الماركسية اللينينية المغربي.
العمل القاعدي التي تبنته هذه المجموعة من الطلبة داخل الاتحاد الوطني لطلبة المغرب أدى إلى انتشار واسع لأفكارهم الثورية التي وضعت النقابة على سكة الثورة، لتتوج الهيمنة بإصدار المؤتمر الخامس عشر سنة 1972 مواقفا ثورية من طبيعة النظام التي حددها فيما يعرف بـ”اللاءات الثلاث”: “لا وطني لا ديمقراطي لا شعبي”، إضافة إلى تبنيه عددا من القضايا والشعارات الثورية ذات الطبيعة السياسية.
من الاختلاف إلى الوحدة
الاتفاق بين منظمات إلى الأمام ومنظمة 23 مارس داخل الإطارات الجماهيرية، لم ينف حقيقة الاختلافات التي كانت قائمة بينهما، سواء من من الناحية التنظيمية، إذ كانت “إلى الأمام تتبني خيار “اللامركزية الديمقراطية” متأثرة بالأجواء البيروقراطية التي عاشتها داخل حزب التحرر والاشتراكية، مقابل تبني خيار المركزية الديمقراطية من منظمة “23 مارس” تحت وقع التفكك التنظيمي الذي عاشه المنتمون لها داخل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.
يعتبر عبد العزيز كوكاس، الكاتب والإعلامي، أن الاختلافات بين المنظمتين حكمه المسار الذي جاءت منه كل منهما، إذ اعتبر أن منظمة إلى الأمام كانت أكثر جدرية بقيادة مجموعة من المناضلين الذين أكثر راديكالية، على خلاف من قدموا من الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذين ظلوا أكثر اعتدالا وهو ما تجلى في أدبيات المنظمتين من قضية الصحراء المغربية التي اعتبرتها 23 مارس قضية تحرر وطنية، فيما قدرت “إلى الأمام” على أنها تتطلب تقرير المصير.
ويؤكد كوكاس أن هناك عوامل ثقافية واجتماعية حاضرة حتى أن هناك من رأي إمكانية تأسيس أنوية من قلب الصحراء لتحرير المغرب من النظام، مما جعل تيارات تتورط في أعمال عسكرية وإدخال أسلحة إلى المغرب، فيما اعتمد الباقي على النضال الشعبي.
سعت المنظمتان فيما بعد، وبعد سلسلة من النقاشات، إلى توحيد عملهما عبر خلق لجنة التوحيد، إضافة إلى التنسيق في العمل بينهما على صعيد عدد من الجبهات الاحتجاجية، إلا أن حملة الاعتقالات كانت قد ازدادت شراسة في منتصف السبعينات من القرن الماضي.
في شتنبر 1970 اجتماع للجنة المركزية لتنظيم “ب”، برز خلاله تيار يدعو للكفاح المسلح، وهو التيار الذي سيؤسس بعض من قيادييه بعد ذلك الفصيل الثالث وسط الحملم، فصيل “لنخدم الشعب”. كما ظهر داخل إلى الأمام بدورها تيارات منها التي دافعت عن بناء الحزب بعيدا عن الدعاية والتحريض، وتلك التي تأثرت بالنموذج الجيفاري بكوبا، غير أن التيار الأساسي كان هو الماركسي اللينيني المنفتح على إسهامات ماو تسي تونغ، الذي تزعمه أبراهام السرفاتي.
من بين أشكال العمل الوحدوية بين منظمة “إلى الأمام” ومنظمة “23 مارس” إلى جانب المنظمات الجماهيرية صدور مجلة “أنفاس” التي ضمت عددا من الوثائق المهمة التي تطرقت للتطورات السياسية للطبقة العاملة المغربية، وقضايا الفلاحين، كما انفتحت على قضايا عالمية مثل القضية الفلسطينية وخلاصات تجارب التحرر الأممية.
استغلال تصدعات النظام
الوضع الذي كانت تعيشه الدولة في تلك الفترة كان مطبوعا بالأساس بانقلابين عسكريين فاشلين، الأول بالصخيرات في سنة 1971 بقيادة اعبابو والمذبوح، ثم انقلاب القنيطرة بقيادة أوفقير، الأمر الذي عزز من طموح اليساريين المغاربة الذين رأوا بأن “التحالف الطبقي المسيطر” يعيش انشقاق وأن الظرفية مناسبة لمحاصرته أكثر.
إضافة إلى ذلك كانت المرحلة مطبوعة بعدد من الاعتصامات والاحتجاجات الطويلة، نتيجة الأزمة الاجتماعية، إضافة إلى بروز حركة مسلحة، أبرزها حركة 3مارس بقيادة بنونة وآخرون والتي سرعان ما قضت عليها الدولة.
الفترة شهدت عددا من الإضرابات العمالية والفلاحية، إضافة إلى احتجاجات التلاميذ والطلبة، الأمر الذي واجهته الدولة بسلسلة من الاعتقالات، بعد اختراق عدد من المجموعات الثورية، الأمر الذي كبد المنظمات الثورية ضريبة كبيرة بعد اعتقال أبرز قيادييها في الفترة ما يناير وماي 1972، وما عاشوه من تعذيب كبير داخل المعتقلات السرية.
يتبع..