“حراك” السردين ينتفض على “عفريت” الاحتكار

لا أحد يعرف بالضبط سر ارتباط المغاربة بسمك السردين، وما العلم الذي يقدر على تفسير هذه العلاقة؛ هل هي الأنثروبولوجيا الثقافية أم الاقتصاد السياسي؟ لكن الواقع يقول إن المغاربة أبدعوا في طبخ هذا النوع من السمك بصيغ متعددة، بل يكاد يكون النوع السمكي الذي خضع لكل فنون الطبخ المغربي دون ممانعة، فتجده على الموائد مقليًا، مشويًا، في الفرن، وعلى الطاجين…
وصفات لا تُحصى ولا تُعد، دائمًا بطلها السمك الأكثر شعبية من وجدة إلى الكويرة.
قد يكون سر هذا الارتباط هو وفرة السردين في بلد يمتد شريطه الساحلي على 3500 كيلومتر، وقد يكون الانتماء إلى الثقافة المتوسطية له علاقة أيضًا، فدول حوض المتوسط لها علاقة خاصة مع هذا السمك الذي له المكانة ذاتها في إيطاليا، قبرص، تونس، وإسبانيا.
وقد يكون سبب العلاقة كذلك هو الثمن، الذي ظل دائمًا في متناول القدرة الشرائية لأغلب المغاربة، حتى كاد يرتبط مفهوم السمك كله بالسردين. لكن فجأةً ومن دون مقدمات، تحول السمك الأكثر شعبية في البلاد من الرخص إلى الغلاء، وصار المغربي في حاجة إلى 30 أو 40 درهما ليحصل على كيلوغرام من كفتة السردين.
كان من المنطقي أن يتعامل العديد من المغاربة مع الأنواع الأخرى من السمك، مثل السلمون، الكالمار، وباقي الأسماك البيضاء بمنطق؛ كم حاجة نشتهيها ونتغلب على شهوتها بتركها.
فقد ارتبطت أثمنة هذه الأنواع منذ ردح من الزمن في مخيال المغاربة بارتفاع ثمنها، ولا يدركها إلا علية القوم، لكن أن يصبح سمك الفقراء عصيًا على مائدتهم، وينحو منحى اللحوم الحمراء والدجاج، فهذا هو الحد الذي بلغ فيه السيل مداه.
منذ يومين، ووسائل التواصل الاجتماعي مقلوبة رأسًا على عقب بسبب شاب مراكشي قرر أن يبيع سمك السردين بخمسة دراهم للكيلوغرام الواحد، في مدينة تعشق الشمس أكثر من أي شيء آخر، وليس بينها وبين البحر إلا البعد والمسافة.
بل إن الشاب، البالغ من العمر 22 عامًا، قرر أن يُسمي محله التجاري “ميناء مراكش”، في تحدٍّ مجازي لكل الوسطاء وشبكات المضاربين، التي باتت اليوم محل اتهام قوي لكونها السبب في الغلاء غير المفهوم الذي يجتاح السلع الأساسية للمغاربة. فهي متخفية في الظلام، بينما الحكومة وباقي مؤسسات الدولة أمام فوهة مدفع الغضب الشعبي بسبب الغلاء.
فجَّر الشاب المراكشي الوضع عندما قال إن ثمن السردين في الجملة لا يتجاوز 3 دراهم في أقصى الحدود، وهو يتنقل إلى الموانئ متجاوزًا الوسطاء، وقانع بربح درهم واحد دون جشع، في حين أن باقي التجار والوسطاء يمتصون دماء المغاربة دون رحمة، عندما يبيعون الكيلوغرام بـ 20 أو 30 درهمًا.
طبعًا، لم يمر هذا الحدث مرور الكرام، بل خلق ضجة واسعة وارتباكًا كبيرًا في صفوف التجار، بين مستغرب، مستنكر، مشكك، ومندد، بينما وجد المستهلك المغربي نفسه تائهًا بين الحقيقة الضائعة وسط هذا الضباب الكثيف.
هذا الوضع فرض ضغطًا على كل مؤسسات الدولة، فمجلس المنافسة، المخول له دستوريًا مراقبة السوق الوطنية، أقر قبل أسبوع عبر رئيسه أحمد رحو أن الوسطاء يلتهمون 50% من الأرباح، بمعنى أن السلعة إذا كانت قيمتها السوقية 20 درهمًا، فإن الوسيط يربح دون عناء 10 دراهم، بينما 10 دراهم المتبقية هي القيمة الحقيقية للإنتاج التي يتقاسمها المنتج، الناقل، والضرائب المدفوعة للدولة.
هذه الخلاصة جاءت في تقرير المجلس حول أسواق الجملة للخضر والفواكه، حيث تأكد أن هناك فجوة كبيرة بين الأسعار التي يبيع بها الفلاحون والمنتجون، وبين الأسعار التي يدفعها المستهلك، حيث يذهب أكثر من 50% من القيمة إلى الوسطاء.
والمفارقة أن مجلس المنافسة، المكلف بمراقبة هذه الاختلالات، لا يملك سوى فريقا من 60 موظفًا فقط! وهو الذي يعتزم إبداء رأيه في موضوع الأسماك باعتباره قطاعا تنازعيا.
في الجهة الأخرى، تقول الحكومة إنها اتخذت عدة إجراءات لخفض أسعار اللحوم، من بينها تقليص الرسوم الجمركية على استيراد الأبقار والأغنام واللحوم، كما تبرر ارتفاع الأسعار بالجفاف، “التضخم المستورد”، وارتفاع أسعار الأعلاف.
المغاربة حائرون، على وزن أغنية العندليب الأسمر: “الرفاق حائرون…”
فمن جهة، جيوبهم ملتهبة منذ مدة، ومن جهة أخرى، الحكومة تنفق المليارات يوميًا لضبط الأسعار، وفي المقابل، هناك “قطط سمان” لا يتوقفون في الخفاء عن قضم القدرة الشرائية للمغاربة، والمفارقة ألا أحد يراهم، وليس هناك وسيلة فعالة لردعهم.
بكلمة واحدة، وبلا لف ولا دوران، هناك ثقب أسود في مكان ما…!
وبلا شك، دفع “حراك السردين” اليوم بقطاع السمك إلى مشرحة التشريح المجتمعي، وبات كل المغاربة يقارنون أسعار الأسماك في مختلف المدن. ولا شك أن هناك حراكات أخرى قادمة في الأيام القليلة المقبلة، خصوصًا مع حلول الشهر الفضيل، الذي يرتفع فيه الاستهلاك الأسري إلى مستويات قياسية، ومن بين هذه الحراكات: حراك البيض، الدجاج، واللحوم الحمراء.
فهل سننتظر مزيدًا من الوقت لكي تستفيق الدولة وتمسك “عفريت الاحتكار” من قمقمه؟
وحدها الأيام كفيلة بالإجابة عن هذا السؤال.