سياسة

كلفة الفساد.. أرقامٌ تَصعَق السياسيين وتختَبِر شعارات تخليق الإدارة

كلفة الفساد.. أرقامٌ تَصعَق السياسيين وتختَبِر شعارات تخليق الإدارة

خروج الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها بتقدير الكلفة التي يتكبدها المغرب بسبب استمرار الفساد في 50 مليار درهم كان كافياً لتوالي المواقف المتباينة حول فعالية البرامج التي تطلقها المؤسسات المعنية بكبح تمدد الرشوة داخل المجتمع.

وبمجرد نشر الهيئة الوطنية لتقريرها السنوي قبل أسابيع، حاول عدد من الوزراء داخل الحكومة، بنبرة تشبه التشكيك، مساءلة الأرقام السلبية التي وردت في صفحات التقرير والمؤشرات المتراجعة التي رسمت صورة قاتمة حول وضعية محاربة الفساد في المغرب، والتي كانت آخرها دعوة وزير الميزانية، فوزي لقجع، الصريحة إلى رئيس الهيئة إلى تقديم شرح لتفاصيل كلفة الفساد التي قدرت بـ50 مليار درهم.

وبغض النظر عن دقتها، تعيد الأرقام المقلقة الصادرة عن الهيئة الوطنية المعنية بوقف انتشار الرشوة نقاش الجدوى من البرنامج المشكل للاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد وتطهير المؤسسات والإدارات العمومية لتطويق انتشار الفساد في الإدارات والمؤسسات العمومية المغربية، والذي يكلف ما يناهز 50 مليار درهم سنويا.

منهجيات متعددة

وبحكم أن الجزء الكبير من الجدل أثير حول طريقة احتساب الهيئة لـ50 مليار درهم، التي قدرت أنها كلفة الفساد في المغرب، تواصلت جريدة “مدار21” الإلكترونية مع رئيسها، محمد البشير الراشدي، لاستفساره حول المنهجية المعتمدة لقياس حجم الخسائر التي يخلفها الفساد ماليا على الاقتصاد والمجتمع المغربي.

الراشدي أجاب أن “منهجية احتساب كلفة الفساد في المغرب هي منهجية متعددة المداخل ومبنية على معايير علمية دقيقة”، مبرزا أنه “يتم اعتماد دراسات اقتصادية تقوم بها منظمات دولية مكلفة بمحاربة الفساد وقياس مستوى أثره على المجتمعات وليست أرقاما من وحي الهيئة”.

واستحضر الراشدي، في حديثه لجريدة “مدار21” الإلكترونية، أن “صندوق النقد الدولي خلص في دراسة إلى أن نقطة واحدة من مؤشر الفساد يمكن أن تنعكس بـ7.8 في المئة من دخل الفئات الأكثر هشاشة في المجتمع”.

وأحال المتحدث ذاته على “الدراسات المتعددة التي تصدر عن مكتب الأمم المتحدة المعني بمكافحة المخدرات والجريمة والذي يشرف على تطبيق الاتفاقية الأممية لمحاربة الفساد”، مبرزا أن “نقطة واحدة من الفساد يوازيها تراجع بنسبة 2 في المئة من إنتاجية الدول المعنية بها”.

وبالإضافة إلى الأثر المباشر لتفشي الفساد داخل المجتمعات، أورد الراشدي أن “ارتفاع الفساد في دولة معينة يمكن أن يؤثر على سمعتها ويؤدي إلى تراجع بنسبة 20 في المئة من المداخيل المتأتية من الاستثمارات داخلها”.

“تقديرٌ بمقاربة متعددة”

وأورد الراشدي أن “الهيئة اعتمدت على عدد من المعايير قبل خلوصها إلى هذا الرقم (50 مليار درهم) ككلفة للفساد بالمغرب”، مشيرا إلى أن “من أهم هذه المؤشرات مستوى التركيز الاقتصادي ومستوى المداخيل الضريبية بالإضافة إلى مؤشر الفساد الذي يشكل 38/100 نقطة ومقارنته مع مستواه في دول أخرى”.

وتابع رئيس “هيئة محاربة الرشوة” أن “50 مليار درهم هو تقدير من الهيئة لكلفة الفساد في المغرب؛ أي أنه لم يتم الوصول إليه بعملية حسابية وإنما عبر مقاربة متعددة”، مسجلا أن “هذه الكلفة توازي 3.8 في المئة من الناتج الداخلي الخام الوطني”.

وواجه المتحدث ذاته من يحاول أن يشكك في أرقام أو نوايا الهيئة عندما تكشف عن حالة ووضعية الفساد في المغرب، بأن “كل هيئة أو منظمة تعنى بقياس أثر وحجم الفساد داخل المجتمع ومكافحته تقدم تقديرات للكلفة”، مشددا على أن “أي تقدير يبقى لغاية بارزة هي تسليط الضوء على الأثر الوخيم للفساد على المجتمع وليس للإساءة أو استهداف جهة بعينها”.

وسجل الراشدي أن “الغرض من كل هذه الأرقام والملاحظات والاستراتيجيات وحتى التوصيات التي تقدمها الهيئة حين صدور أي تقرير رسمي سنوي عنها يبقى هو إعطاء إشارة للمداخل التي يمكن من خلالها معالجة هذه الظاهرة وليس حلا نهائيا له”.

“لا مجال للنقاش حول مصداقيتنا”

وفي ما يتعلق بمنهجية اشتغال الهيئة في مجال محاربة الرشوة والفساد، سجل الراشدي “أننا نشتغل وفق منهجية علمية مدققة”، مؤكدا أنه “قبل الوصول إلى النتائج وتقدير الكلفة نمر عبر مرحلة التشخيص بناء على معايير معترف بها دوليا وتقاطع مؤشرات متعددة من أزيد من 15 مصدرا”.

ولا تقتصر الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، حسب المصرح نفسه، على الأبحاث الميدانية الخاصة بها وإنما تنفتح على دراسات دولية وعلى رأسها الدراسة الأخيرة التي قام بها البنك الدولي على مجموعة من الدول ومن بينها المغرب.

وأثنى الراشدي على جهود الهيئة في بناء الاستنتاجات ومنهجية اشتغالها حينما قال إن “نتائج الدراسات التي نقوم بها على مستوى الوطني، بناء على تحليل واسع ومعطيات تفصيلية، تتقاطع بشكل كبير مع المؤشرات الدولية”.

وخاطب المصدر ذاته الوزراء والسياسيين الذي يحاولون إدخال الهيئة في معادلات ونقاشات سياسية ضيقة أن “خلوصنا إلى نفس خلاصات التقارير الدولية ينهي النقاش حول مصداقية هذه الأرقام التي نصدرها”.

سياسات “مشلولة” لمحاربة الفساد

ولا تتوقف مهمة الهيئة عند رصد كلفة الفساد بالأرقام وإنما الوقوف عند مكامن ضعف تنزيل الاستراتيجيات والبرامج المرتبطة بمكافحته وقصور السياسات العمومية في علاقتها بالموضوع، وهو ما أكده الراشدي بقوله إن “الهيئة قامت بتقييم السياسيات العمومية في محاربة الفساد على مدى عقدين”، مشددا على “أننا حددنا مكامن القوة والضعف في تنزيلها”.

ولدى سؤاله عن أبرز أوجه قصور هذه السياسات خلال 20 سنة الماضية، أورد الراشدي أن “معظم البرامج التي تم اعتمادها خلال هذه الفترة يطبعها طغيان الجانب التشريعي مقارنة بالتنزيل الفعلي لهذه المقتضيات وإنتاج الأثر منها”.

وفي هذا الصدد، أعطى الراشدي مثالاً عن القانون 55.19 اﻟﻤﺘﻌﻠﻖ ﺑﺘﺒﺴـﻴﻂ اﻟﻤﺴﺎﻃﺮ واﻹﺟﺮاءات اﻹدارﻳﺔ، حيث اعتبر أنه “قانون متقدم مع وجود هامش لتحسينه وتطويره وتجويده”، مستدركا أن “تنزيل مضامين هذا القانون لم يتم بكيفية فعالة بشكل يجعل المساطر مدونة ومنشورة وملزمة ومتابعتها من أجل تبسيطها وتسهيل العلاقة بين المواطن والمصالح الإدارية العمومية”.

وسجل المصرح ذاته أن “الهيئة تعاملت بنفس الطريقة مع الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد من خلال تقييم دقيق لكل مشروع أو إجراء على حدة”، مبينا أنه “انطلاقا من نتائج هذا التقييم خلصنا إلى الإجراءات التي لم تفعل بالشكل اللازم أو سارت في توجه غير صريح وبالتالي لم يثمر أي نتيجة”.

وزاد الراشدي مقدما مثالاً ثانيا عن القوانين المتعلقة بالتصريح الإجباري بالممتلكات، والتي يصل عددها إلى 8 قوانين، التي لا تؤدي، حسبه، إلى فعالية كبيرة في مراقبة وضعية الفساد بناء على معطى الممتلكات، مشيرا إلى أن “هذا الواقع يحيل على ضرورة بلورة نص موحد يؤطر هذه الآلية لكبح انتشار الفساد”.

ومن بين العوامل ذات الأثر البالغ في شلل السياسات العمومية في محاربة الفساد، لفت الراشدي إلى “غياب تفعيل آليات مؤسسة الحكامة الاستراتيجية التي تضمن التنسيق والتوجيه وتضمن الوصول إلى نتائج إيجابية”. 

“نشتغل بموضوعية ولا نحاكم النوايا”

بالنظر إلى اقتراب انتهاء المدة الزمنية التي وضعتها الهيئة لاستراتيجيتها الوطنية في مكافحة الفساد، والمحددة في عشر سنوات (2015/2025)، وشبه غياب الأثر من برامجها في تقليص انتشار الرشوة داخل المجتمع بناء على ما ورد من أرقام ومؤشرات في تقريرها السنوي، كان لا بد من التفكير في تصور جديد لوضع حد لتمدد الفساد في مؤسسات وإدارات الدولة، يضيف رئيس الهيئة.

وانطلاقا من المؤشرات التي رصدتها، تابع الراشدي بأن “الهيئة فتحت أزيد من 40 ورشا جديدا ومهيكلا في مواضيع مكافحة الفساد”، مورداً أن نتائج هذا العمل، تشخيصاً وتقييماً، أسفرت عن بلورة مقترحات جديدة واستراتيجية من الجيل الجديد لسياسة الدولة في موضوع وقف الفساد.

ولم ينف رئيس الهيئة الوطنية وجود مكتسبات على المستوى التشريعي والمؤسساتي، مبرزا أن “الاستراتيجية من الجيل الجديد، التي تحدثنا عنها، هي التي تعطي أجوبة مستقبلية وعملية على النقائص التي واجهت الاستراتيجية الماضية”.

ولدى سؤال “مدار21” الإلكترونية حول إمكانية وجود إرادة معاكسة للمسار الإصلاحي الذي تحاول الهيئة أن تقوده لتقليص نسب الفساد والرشوة، أجاب الراشدي أن “الهيئة تشتغل بموضوعية مع موضوع الفساد ولا تلجأ إلى تحليل أو محاكمة النوايا بقدر ما تنبه إلى ما تم القيام به وما لم يتم القيام به”.

وأضاف المتحدث أن “الهيئة تحاول أن تقود الجهات المعنية بمحاربة الفساد إلى الطرق التي يمكن أن تعيد ثقة المواطن في سياساتها ونجاعتها مع تحديد أولويات وتوجهات وبرمجة تنزيل إجراءات كل سنة على حدة”، مشددا على أنه “بهذه الطريقة نضمن نتائج إيجابية وتجنب مثل هذه التساؤلات حول وجود الإرادة الحقيقية في محاربة الفساد من غيابها”.  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News