“تَعطُّل” تشييد المباني العالية يُحفِّز “الزحف الإسمنتي” على الأراضي الفلاحية

بعدما كانت جوانب المدن المغربية تُوفِّر، بشكل أساسي، أرضاً خصبةً للأنشطة الفلاحية بالنظر إلى شساعة المساحات فيها، لم تعد، خلال السنوات الأخيرة، هوامش الحواضر المغربية تتسع لتأمين نفس المساحات المزروعة قبل عقود من اليوم، وذلك أمام التوسع السريع للتجمعات والعمارات السكنية التي وظفتها الدولة كسلاح ضد أزمة السكن ولو على حساب انحصار الأراضي الفلاحية.
هذا النقاش العمومي، القديم الجديد، حول تهديدات التوسع العمراني بشكل أفقي على المساحات الخضراء والأراضي الفلاحية في الأوساط الحضارية والقروية أعادت تحريكه عدد من الفعاليات البيئية خلال الفترة الأخيرة بعدما أصبحت ظاهرة انتشار المباني في هوامش المدن تثير مخاوف الزحف الإسمنتي على حساب الغطاء الأخضر، وتسائل ضعف الاعتماد على البنايات العالية في تحقيق التوازن بين توفير عرض سكني كاف وصيانة الحقوق البيئية والإيكولوجية.
وليست هذه أول مرة يثار فيها النقاش حول “شبه غياب” البنايات العالية في المجالات الحضارية المغربية كأسلوب لتدبير التهيئة المعمارية في المدن المغربية بشكل يحد من “غزو” المباني على المكون الطبيعي والخصوصية الإيكولوجية للمدن، بل تناولت عدد من المناظرات والندوات الوطنية خلال السنوات الماضية هذا الموضوع للوقوف على العوامل الكامنة وراء عدم تقدم مثل هذه المشاريع التي تضمن مواجهة تحدي توفير السكن مع الحفاظ على التوازنات الإيكولوجية في مستوى طبيعي.
وقد خطا المغرب خطوات في هذا الجانب، خاصة في ما يتعلق بتجربة القطب المالي بالعاصمة الاقتصادية، الدار البيضاء، حيث تم تشييد عمارات طويلة على خلاف شكل المباني المعمول بها في عدد من المدن التي لا تتجاوز في أقصى تقدير 8 طبقات، بالإضافة إلى توسع هذه التجارب لتشمل بعض المدن الكبرى وعلى رأسها مدينة طنجة شمال المملكة.
إشكالية جديدة قديمة
عبد العزيز الموساوي، رئيس سابق للهيئة الجهوية للمهندسين المعماريين بفاس ـ مكناس، قال إن “موضوع المباني العالية في علاقتها بالأراضي الفلاحية ليس وليد اللحظة وإنما سبق طرحه في مناسبات عديدة خلال السنوات الماضية وفي عهد عدد من الوزراء الذين أشرفوا على قطاع التعمير والإسكان”.
وأضاف المهندس المعماري، الذي تحدث لجريدة “مدار21” الإلكترونية، أن “غياب النقاش عن هذا الموضوع بالشكل المطلوب يرتبط بعدد من العوامل على رأسها تضارب المصالح ومحاولات عدد من المنعشين العقاريين سلك الطريق الأسهل لجني الأرباح وتقليص النفقات في تنزيل مشاريعهم العقارية”.
وأشار المتحدث ذاته إلى “طرح هذا الموضوع بشكل كبير في عهد وزير الإسكان في سنوات التسعينيات، عبد الرحمان بوفتاس”، مبرزا أنه “خلال هذه المرحلة أثارت عدد من التنظيمات المهنية للمهندسين إشكالية عدم لجوء سياسات التعمير وإعداد التراب الوطني إلى البناء العمودي لتجنب استنزاف الأراضي الفلاحية دون أي جواب حقيقي عنها”.
وذكر المهندس ذاته أن “الجواب الذي قدم حينها من طرف الوزير هو أن التحدي الذي يواجه هذا الورش هو اعتماد المغاربة على البناء بشكل مستقل (auto- construction)”، مبرزا أن “هذا النموذج في توسيع البناء هو الذي يؤدي إلى تزايد الانتشار الأفقي للأبنية الإسمنتية على حساب الأراضي الفلاحية والمساحات الخضراء”.
“استنزاف للميزانيات”
وتشير التحليلات في هذا المجال إلى أن تأثير التوسع الأفقي للبنايات أو “غزو” الإسمنت للأراضي الفلاحية لا يتوقف عند استنزاف المساحات المزروعة أو الفضاءات الخضراء بل يتجاوزه ليشمل رفع تكاليف ونفقات تأهيل البنيات التحتية في المجالات الحضرية والقروية.
وفي هذا الجانب، بين الموساوي أن “انتشار البناء بشكل الأفقي قد يضاعف نفقات وميزانيات الدولة في تشييد طرق جديدة وتوسيع شبكات الصرف الصحي وشبكات الاتصالات”، مؤكدا أن “التأثير على المساحات المزروعة يبقى في هذه الحالة هو الانعكاس السلبي الأكثر خطورة على المدى الاستراتيجي”.
وأجاب المتحدث ذاته من يبرر هذا الواقع على مستوى البنية المعمارية في المدن بضعف الإمكانيات المادية واللوجيستيكية بأنه “مخطئ وبشكل كبير”، مسجلا أنه “لا يمكن أن نتكلم عن ضعف الإمكانيات في دولة تستثمر في قطاع البناء في دول إفريقية وتشييد ملاعب لاستقبال كأس العالم”.
وأورد المهني في قطاع الهندسة المعمارية أن الذي يمكن أن يكون مبررا مقنعا في هذا الضعف في اعتماد بنايات طويلة هو “الجانب السوسيوـ ثقافي للمغاربة الذين ألفوا السكن المستقل وغياب الوعي بأهمية مثل هذه الحلول في استدامة الأراضي الفلاحية وتأمين المساحات المزروعة من زحف الإسمنت”.
“لا إكراه تقني في الموضوع”
ويتناول عدد من المتخصصين في الهندسة المعمارية موضوع ضعف حضور البنايات العالية في المدن المغربية من زاوية ضعف الكفاءات القادرة على إنجاح هذا التوجه بالإضافة إلى قلة الإمكانيات المادية واللوجيستية.
مُبررٌ اختار المتحدث لـ”مدار21″ أن يجيب عنه برفض منطق “الهزيمة في مناقشة الرهانات الكبرى التي من المفترض أن تكون الدولة قد أنهت النقاش حولها منذ سنوات”، مسجلا أن “من السهل جدا، تقنيا، أن نبني عمارة من 20 طابقا فما فوق”.
وأبرز المتحدث ذاته أن “الذي يجب أن يحضر في مثل هذه المشاريع الكبيرة هو المراقبة والمسؤولية في التنزيل”، مسجلا أنه “لا يمكن أن نعبث بأرواح الناس بالغش في معايير بناء هذه العمارات الشاهقة”.
ولم يستسغ المهندس المعماري التقليل من قيمة الكفاءات المغربية في هذا المجال، لافتا إلى أن “المغرب اليوم يتوفر على شركات بناء كبيرة بإمكانيات تقنية ولوجيستيكية عالية وهو ما أنتج بنية حضارية معمارية مقبولة في عدد من المدن المغربية وعلى رأسها طنجة”.
ولدى سؤال “مدار21” عن مشروعية المبررات الأمنية لتفسير “شبه غياب” المباني العالية في المدن المغربية، أورد الموساوي أنه “يمكن أن نقبل بعدم تعدي مستوى في العلو إذا ارتبط الأمر بمدن فيها قصور ملكية أو بنايات تستلزم توفير حماية على مستوى البنايات المجاورة لها”.
وبلغة واضحة، شدد المهني في الهندسة المعمارية على أن “العامل الأساسي وراء هذه الإشكالية هو غياب الإرادة في إلزام المنعشين العقاريين بالاستثمار في مجال البناء بالشكل الذي يخدم المصالح البيئية والاقتصادية للدولة وليس فسح المجال أمام المستثمر ليقوم بما يريد”، مؤكدا أن “كل منعش عقاري يجد سهولة في التوسع العمراني بشكل أفقي لعدم احتياجه لاستثمارات كبيرة”.
حتمية الاستثمار في العلو
ولم يختلف رأي المهندسة المنظرية ورئيسة حركة “مغرب البيئة 2050″، سليمة بلمقدم، عن المواقف التي عبر عنها المهندس المعماري، عبد العزيز الموساوي، حينما اعتبرت أن “السؤال حول حدود الاعتماد على المباني العالية في المدن التقنية هو سؤال تقني محض ولا علاقة له بالبيئة”، مستدركةً أنه “في مقابل ذلك، فإن الاستثمار في المباني العالية قد ينقذ هكتارات من الأراضي الفلاحية من الزحف الإسمنتي”.
وأوردت المتحدثة ذاتها، في تصريح لجريدة “مدار21” الإلكترونية أن “الحديث عن التهيئة الحضارية هو حديث عن الاستثمار في العلو لتفادي انتشار المباني بشكل أفقي وعشوائي وأيضا لربح مساحات خضراء وأراضٍ زراعية مهمة”.
ولم تعتبر الفاعلة البيئية أن هناك أي مانع في تسريع اعتماد هذه المباني العالية، محيلةً على “نموذج المباني الموجودة في القطب المالي بالدار البيضاء الذي نجح في توفير مساحات خضراء وفضاءات ترفيهية في المجال الحضري المجانب لهذا القطب”.
ولأن تأخر الحسم في اعتماد خيار المباني العالية لتدارك الاستنزاف المهول للأراضي الفلاحية يقابله فسح المجال أمام المستثمرين في الانتشار العمراني الأفقي، اعتبرت المهندسة والفاعلة البيئية أن “مثل هذه القرارات يجب أن تدخل في تصميم التهيئات الحضرية”.