مجتمع

إبراهيم بلوح يفكك “تمغربيت” وعلاقتها التاريخية بالدبلوماسية

إبراهيم بلوح يفكك “تمغربيت” وعلاقتها التاريخية بالدبلوماسية

بات الكثير منا في الآونة الأخيرة يستعمل مصطلح “تمغربيت” ويربطه بعدد من المجالات، أحبانا دون إدراك حقيقي لمعناه وأبعاده.. ماذا نعني بتمغربيت؟ هل هي سلوك مغربي لتحقيق نوع من التمايز عن الآخر؟ ثم ماذا عن الرغبة في هذا التمايز؟ هل هو تقوقع هوياتي أم تفرد وانفتاح يميزان تصور الذات عن الأغيار؟ وإلى أي حد يمكن القول بأن تمغربيت تضم عناصر الحياة والوجود اللذين يعكسان هوية المغرب الحقيقية؟ ثم ما الدبلوماسية، وما خصوصيات هذه الأخيرة مغربيا؟ وما الداعي لإثارة هذه الأخيرة راهنا في ارتباطها وتشاوجها بتمغربيت؟

في هذا الحوار، الباحث في علم الاجتماع، إبراهيم بلوح، بدد بياضات الأسئلة السالفة الذكر، وأثار عتبتين أساسيتين، تنصرف العتبة الأولى للحديث عن أهمية كل متغير مع تبيان علاقة الارتباط التي تلي بينهما. فيما سنعضد هذه الأهمية وذلك التشاوج ضمن العتبة الثانية من خلال عرض بعض التجارب المغربية عبر العودة لتاريخ التمثيلية الدبلوماسية المغربية ببعض دول العالم، مع إبراز ما ميز تلك التمثيلية، وهذا ما سيدفع في اتجاه تناول تمغربيت بوصفها مرتكز تلك التمثيلية المغربية، ومظهرا بارزا لمقومات ومرتكزات الشخصية المغربية.

ما أهمية تمغربيت والدبلوماسية، وما العلاقة بينهما؟

لوحظ خلال بداية الألفية الثالثة إقبال متنام لمختلف دول العالم على إقامة العلاقات الدبلوماسية وزيادة البعثات. ويرجع هذا الإقبال إلى جملة التحولات التي تشهدها دول المعمور. ولعل تداعيات العولمة بما فرضته من ” زيادة في الاعتماد المتبادل وكثافة في التعامل بين الدول وتزايد معدلات التبادل التجاري كما وكيفا” يظل أبرز معالم تلك التحولات. ولا تقف الأهمية التي تنطوي عليها الدبلوماسية على الجانب التبادلي للسلع والخيرات المادية والرمزية فحسب، بل يمتد أثرها الإيجابي إلى ضمان استمرارية وديمومة الأمن والسلم العالمي بين مختلف دول العالم، الأمر الذي من شأنه أن يسهم في رعاية مصالح الشعوب والأمم وضمان الحريات العامة واحترام حقوق الإنسان.

لقد باتت الدبلوماسية اليوم عنوانا عريضا يسم مختلف تلك الدول ذات النظم الحديثة التي تقوم على الديمقراطية والتعددية السياسية وثقافة احترام كرامة الإنسان. فلا غرو من أن تستحيل فنا، على حد تعبير برادييه فودري (Fodere) “يروم تمثيل الحكومة ومصالح البلاد لدى الحكومات.. ويعمل على تسهيل حقوق ومصالح وهيبة الوطن في الخارج، ويدير الشؤون الدولية ويتولى أو يتابع المفاوضات السياسية.” وما دامت الدبلوماسية مسألة ضرورية لقيادة الشؤون العامة ومتابعة المفاوضات، حسبما يذهب إلى ذلك شارل كالفو (C. Calvo)، فإن تلك القيادة يفترض أن تتأسس على جملة المقومات والمرتكزات التي يستند إليها كل بلد في ممارساته الدبلوماسية.

والحديث عن مقومات البلد وخصوصياته الثقافية، أو بالتعبير الأنثربولوجي لروبرت ريدفيلد (Robert Redfield) السُنة الصغرى/ الثقافة المحلية (Little tradition) في مقابل السُنة الكبرى (Big tradition)، يسوقنا لتناول تلك الخصوصية والمتضمنة في تمغربيت التي تحيل في مدلولها العام على تلك الثقافة التي تخلق تركيبة ثقافية، وتمنح الأشخاص هوية (Identité) بتعبير ماركريت ميد (Margaret Mead). إنها ذلك التعبير عن سلوك وثقافة وقيم وتقاليد الأمة المغربية. ويعتبرها سعيد بنيس ” مصفوفة مجسدة للعناصر الحضارية واللغوية والثقافية والتاريخية والإنسانية التي تميز المملكة المغربية عن باقي بلدان المغرب الكبير الأخرى.” تمغربيت هي اليوم، الأمس، أجدادنا، حياتنا في واقعنا الحالي والماضي. وباختصار، هي تجليات القيم والمقومات التاريخية والحضارية والثقافية والفنية لهذه الأمة المغربية. إن الحديث عن تمغربيت اليوم هو إعادة لإحياء الشخصية المغربية التي تتسم بزخم حضاري وثقافي، تتمسك بوطنها وقيمها، وتنفتح على الآخر في نفس الآن.

من وجهة نظرك، ما هي خصائص ومميزات الدبلوماسية المغربية؟

في تاريخنا متكأ لنفهم بأن نجاح الدبلوماسية المغربية بالأمس واليوم سيرورة اتسمت على الدوام بالحركية، فهي ليست طارئة بقدر ما هي نابعة من تاريخ البلد الضاربة جذوره في القدم. ولعل العودة للتاريخ تسعفنا في إلقاء الضوء على جملة التساؤلات التي أثيرت في مقدمة هذه الورقة، فإذا كانت هناك من إضاءة فمن التاريخ نتوقعها على حد تعبير أحمد التوفيق. وقد سبق وأكد ذات الطرح، في أهمية ووجاهة العودة للتاريخ لفهم تجليات الحاضر وظواهره الإنسانية بوصفها في الأساس ظواهر زمانية، العلامة ابن خلدون الذي اعتبر ” سائر ما يحدث… في العمران بطبيعته من الأحوال…”.

لا يماري متتبع وقارئ لتاريخ المغرب ووقائعه أن تاريخه تاريخ عراقة. اثنا عشر قرنا من الزمن كفيلة بأن تعطي للهوية المغربية سمتها الحضارية الخاصة. صحيح أن ثمة مراحل زمنية لم تكن فيها الشخصية المغربية بالشكل الذي يشهد ويعبر عن الحضارة والمكانة المتميزة لبلد المغرب، لكن اليوم يعيش هذا الأخير صحوة لتلك الهوية المغربية/ تمغربيت. إن الإنجازات الدبلوماسية التي راكمها البلد بالأمس واليوم تعود بالأساس إلى مخزون المغاربة النفسي والوجداني الممثلان لعبقرية جماعية طالما شهد بها البعيد قبل القريب. كثيرة هي الأمثلة التي يطلعنا عليها تاريخ المغرب وسلاطينه، ويؤكد عبرها عن التميز المغربي في دبلوماسيته مع مختلف دول المعمور.

ففي عصر أحمد المنصور الذهبي، تمكن هذا الأخير من فتح باب الحوار، الذي كان مغلقا بين الخلافة العثمانية والدولة المغربية، عبر سفيره علي بن محمد التمكروتي إلى العاصمة العثمانية في نوفمبر 1589. أقام فيها حوالي 8 أشهر، أدى في بدايتها مهمته الدبلوماسية، حيث استقبله السلطان العثماني مراد الثالث وسلمه رسالة أحمد المنصور الذهبي، ” فصادف ذلك من الخليفة العثماني قبولا واستحسانا”. وفي عهد السلطان المولى عبد الله نجحت الدبلوماسية المغربية في جر مملكة السويد والنرويج إلى التفاوض سنة 1777 من أجل تسوية مسألة القرصنة وعرقلة التجارة في البحر المتوسط.” كما هو الشأن بالنسبة للسلطان سيدي محمد بن عبد الله الذي ظل يفاوض بحسه الدبلوماسي الملوك الأوروبيين حفاظا على أمن البلد وتجارته المتوسطية. ومن ضمن أسماء السفراء المغاربة إلى أوروبا في ظل حكم السلطان سيدي محمد بن عبد الله السيد أحمد الغزال الفاسي سفيرا لبلاد الإسبان، والسفيرين الطاهر بناني الرباطي وبن عبد السلام السلوي لتقرير الصلح مع دولة الفرنسيس وربط علاقات الود مع الدولة العثمانية.

من هم أبرز السفراء المغاربة الذين يمكن استحضار أسمائهم عند الحديث على الدبلوماسية المغربية وأهميتها؟
ويحتفظ التاريخ بأسماء بعض السفراء المغاربة الذين سطع اسمهم دوليا، خاصة في فترة حكم المولى إسماعيل، حيث ظل المغرب عبر امتداد سواحله محط أطماع الأوروبيين بسبب موقعه الجغرافي الذي يشرف على جبل طارق؛ بوابة الخطوط الملاحية العالمية. ويتعلق الأمر بالسفير محمد بن حدو أعطار المنتدب الدبلوماسي للمملكة المتحدة الذي لم يكن انتدابه محض صدفة، ولكن لعلو كعبه، ولمقدرته على التواصل بخصوص القضايا الكبرى للدولة، وعلى رأسها التواجد العسكري البريطاني بطنجة، ودراسة سبل الجلاء منها، والتفاوض بخصوص تبادل البعثات الدبلوماسية، وحل مشكل الأسرى المغاربة والمسيحيين، والتزود بالأسلحة وتقوية التبادل التجاري. تلك كانت من جملة القضايا السياسية التي أدارها بن حدو بحنكة عالية، يسعفه في ذلك إتقانه للغات الحية ومكانته العلمية، فهو سليل أسرة مثقفة مما مكنه من توطيد العلاقات الدبلوماسية بالنخبة الحاكمة بالمملكة المتحدة، واكتسابه لخبرة في التواصل والانفتاح الثقافي. كل تلك المميزات جعلته ” أول مغربي حظي بالعضوية الشرفية بالجمعية الملكية البريطانية، حيث تم انتخابه بها كأعلى هيئة علمية بريطانية، الشيء الذي جعله يحاضر بجامعاتها، رغم الفترة التي لم تتعدى الستة أشهر، حيث تنقل بين جامعاتها، ليلاقي عمداءها وعلى رأسهما جامعتي «أوكسفورد» و«كامبريدج»، وتقلد وساما رفيعا.”

ينضاف إلى قائمة سفراء المغرب السفير عبد الله ابن عائشة التي جاءت استجابة للظروف التي أملتها الوضعية الناجمة عن توتر العلاقات المغربية الفرنسية، حيث أرسله المولى إسماعيل لباريس للتفاوض حول شروط الصلح وتبادل الأسرى. وعند وصوله إلى مدينة باريس عام 1698 كان في استقباله الملك الرابع عشر وحاشيته من الأسرة المالكة والنخبة الفرنسية، وهـو ما اعتبر تشريفا مميزا لممثل السلطان العلوي المولى إسماعيل في قصر فيرساي بباريس. صحيح أن جل تفاوضات بن عائشة لم تكلل بالنجاح، لكنه ظل مثالا للشخصية القوية للسفير والذكية أيضا في تدبيره للمفاوضات، فضلا عن كونه يتكلم أكثر من لغة. ويعتبر المؤرخ عبد الله بوصوف أن سفــارة عبد الله ابن عائشة كانت هي الأهــم ضمن خمس سفارات في أقل من عشرين سنة من المفاوضات الفرنسية/ المغربية. وما ميز سفارة ابن عائشة عن غيرها هو تسميتها بالزيارة الرسمية، وهو إنجاز دبلوماسي في ذلك الوقت، لأن لويس الرابع عشر سبق له أن رفض استقبال أكثر من سفير مغربي أو كلف غيره للتفاوض. وهو ما يجعل من السفير عبد الله ابن عائشة مدرسة دبلوماسية قائمة الذات منذ القرن السابع عشر.

هل يمكن اعتبار ما تعيشه المملكة حاليا ثمرة لكل محطات الدبلوماسية المغربية؟

كثيرة إذن هي التمثيليات التي عكست عراقة وعبقرية المغرب وجنوحه للسلم والحوار والتواصل، حيث حرص السلاطين المغاربة على أن يصحب سفيرهم معه في زياراتهم الرسمية علماء الدين، الأمر الذي يؤشر عن حوار الأديان. كما أن تلك التمثيليات لم تقتصر على قطر دون غيره، بل امتدت لتصل روسيا القيصرية ودول آسيا وأمريكا اللاتينية ودول إفريقيا في أدغال نيجيريا.. الأمر الذي ينم عن الشخصية الدولية المتميزة، والوجود الدولي البارز، والهيبة التي فرضت على دول العالم احترام وتقدير الدبلوماسية المغربية. هذه الأخيرة التي استندت على الدوام إلى العناصر التاريخية والمعرفية والحضارية التي باتت تميز تاريخنا الدبلوماسي مع الآخر.

فلا غرو من أن تصير اليوم عاصمة المملكة الرباط عاصمة المغرب الثقافية الإفريقية لسنة 2022، ويحتفل المغرب بالذكرى السادسة والستين لليوم الوطني للدبلوماسية المغربية، وهو ما يعد رسالة تفيد استمرار المغرب في بذل الجهود الحثيثة للدفاع عن السيادة الوطنية وتعزيز السياسة الخارجية للمملكة. تلك السياسة التي ميزت أداء المغرب الدبلوماسي الذي يعمل وفقه دائما ليجعل من امتداده الجغرافي منطقة سلام بعيدة عن الأحلاف العسكرية والمجابهات الإيديولوجية والقلاقل الاجتماعية. ولعل النجاعة التي ميزت الدبلوماسية المغربية وأبقت على استدامة أمنها الاستراتيجي تمتح أساسا من الثقافة المغربية المجسدة لمعنى تمغربيت بوصفها ” أحد عناصر القوة الناعمة التي تسمح، ليس فقط للمملكة المغربية بل كذلك للمغرب الكبير، باكتساب المزيد من الجاذبية داخل منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والدول المطلة على البحر الأبيض المتوسط والواجهة الأطلسية أيضا”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News