التوتر بين الحكومة وهيئات الحكامة.. “صراع” صحي أم خروج عن منطق المؤسسات؟

قبل أسابيع من تعيين شكيب بنموسى على رأس المندوبية السامية للتخطيط، طفت على السطح تشنجات بين المندوب السامي الأسبق، أحمد الحليمي، مع أغلب الحكومات المتعاقبة، بما فيها الحالية، والتي طالبت بإعفاء الاتحادي من منصبه بسبب أرقامه المُحرجة.
وفجّر الحليمي، نهاية غشت الماضي، عندما قال إنه “منذ يوم تعييني إلى اليوم ما كاينش شي حكومة مامشاش رئيسها عند الملك وقال له يعفيني إلا حكومة عباس الفاسي”، خلافات قديمة جديدة بين الحكومة ومؤسسات الحكامة، التي غالبا ما تضعها أرقامها في صدام مباشر مع السلطة التنفيذية.
ولم تعد عين المتتبع للشأن السياسي المغربي تخطئ “الصراع” بين الحكومة ووزارئها ورؤساء المؤسسات الدستورية المكلفة بالحكامة الجيدة وذلك في كل مرة تنشر فيه هذه المؤسسات تقارير أو معطيات رسمية ترسم الواقع الاقتصادي والاجتماعي للمواطن المغربي في عدد من المجالات وتقيس أثر سياسات الحكومة على معيشه اليومي.
وحتى إن بوَّأ المشرع الدستوري هذه المؤسسات المستقلة عن أي جهاز حكومي بـ”مكانة دستورية خاصة” وارتقى بها عن الصراعات السياسية والحزبية بإفراد تنظيمها وتعريف مهامها بباب خاص في النص الدستوري (الباب الثاني عشر)، فإن وزراء الحكومة، لطالما ردوا، وبتشنج ظاهر في بعض الأحيان، عن أداء هيئات الحكامة لمهمة رصد تأثير السياسات العمومية على مختلف الأصعدة لاعتبارهم بأن “الحكومة لا تقل قدرة على تقييم سياساتها”.
وضمن أبرز المشاهد التي عكست الاصطدامات المتكررة بين الحكومة ومؤسسات الحكامة الخلاف الذي بدا ظاهرا بين الحكومة، ورئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، أحمد رضا الشامي، حينما رصد تقرير للمجلس وضعية “حرجة” للشباب “NEET” الذي لا يتوفر على تكوين ولا يشتغل، في ماي الماضي، والتي رد حينها رئيس الحكومة بـ”التشكيك” في نوايا هذه المؤسسة والتأكيد على أنه “لن يتم العمل بتوصياته”.
ولم تنحسر الخلافات بين المؤسسات الدستورية المستقلة والحكومة في هذا المشهد فقط، بل تكرر مشهد مماثل مع وزير الإدماج الاقتصادي والمقاولة الصغرى والتشغيل والكفاءات، يونس السكوري، الذي واجه بـ”انزعاج” أرقام المندوبية السامية للتخطيط بخصوص أرقام البطالة في صفوف الشباب.
وفي آخر محطات هذا “الغضب الحكومي” من أرقام مؤسسات وهيئات الضبط والحكامة خرجة الناطق الرسمي باسم الحكومة، مصطفى بايتاس، للرد على مضامين التقرير السنوي للهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة.
لكل تخصصاته
ولم تتوقف قراءات الأكاديميين والمحللين السياسيين في كل مرة يقع فيها مثل هذا الاصطدام الذي تبرر فيه الحكومة خرجاتها بـ”الدفاع عن حصيلتها الحكومية والتصدي لمحاولة التنقيص من الإجراءات التي تتخدها في عدد من القطاعات”.
عباس الوردي، محلل سياسي وأستاذ القانون العام بجامعة محمد الخامس، أكد أن “المبدأ العام يقول بأن كل مؤسسة دستورية لها قانون يحكمها ويؤطر قراراتها ومهامها”، مبرزا أن “الحكومة لها اختصاصاتها المقررة وفق النص الدستوري في باب السلطة التنفيذية وبناء على الثقة التي نالتها من طرف البرلمان على أساس برنامجها الحكومي”.
وأضاف المحلل السياسي، في تصريح لجريدة “مدار21” الإلكترونية، أن “التداخل في تقييم حصيلة السياسات العمومية بين عدد من المؤسسات، بما فيها، مؤسسات الحكامة، هو أمر محمود في إطار توجيه عمل الحكومة وتنبيهها إلى الاعوجاجات التي قد تعترض تنزيل الحكومة لسياساتها وتصوراتها لمجموعة من القطاعات المهمة”.
وأمام الانزعاج الذي تبديه الحكومة في كل مرة تخرج فيه مؤسسة دستورية بمعطيات وتقارير حول الواقع الاقتصادي والاجتماعي، اعتبر المتحدث ذاته أن “الحكومة لا يجب أن تقلق من مضمون تقارير هذه المؤسسات الدستورية”، مشددا على أنه “لا يمكن أن نستحسن المخرجات الإيجابية ونرفض أوجه قصور التدبير العمومي لشؤون المغاربة”.
واستحضر الوردي في تحليله لخلفيات هذا “الصراع” الذي ينشب بين الحكومة ووزارئها وبين مؤسسات الحكامة طبيعة هذه الأخيرة بالقول إن “هذه المؤسسات دستورية ومستقلة ولها اختصاصات محددة بالنص الدستوري”، مستدركا أن “الحكومة تبقى سلطة تنفيذية باختصاصات واسعة في التدبير”.
“سجال فارغ وتراشق عشوائي”
وسجل الباحث في القانون العام بجامعة محمد الخامس بالرباط أن “تشخيص المؤسسات الدستورية لأثر السياسات العمومية على الواقع الاقتصادي والاجتماعي للمغاربة ووقوفها على فشل جوانب منها هو أمر إيجابي بالنسبة للحكومة في رصد أوجه قصورها وتصويب أخطائها في الأوراش المقبلة وليس العكس”.
“امتعاض الحكومة من تقارير المجالس والهيئات الدستورية المكلفة بالحكامة لن يعطي إلا صورة سلبية عن تفاعلها مع مشاكل المغاربة التي تكشفها أرقام رسمية وتقارير موثوقة” يؤكد المتحدث ذاته، ويواصل مشددا على أنه “لا يجب أن تنزل لا الحكومة ولا المؤسسات الدستورية إلى هذا المستوى من السجال الفارغ والتراشق العشوائي بالاتهامات المجانية”.
وسجل الوردي أن “هذا المنطق في التعامل والتفاعل مع قضايا المغاربة غير مقبول في دولة المؤسسات والقانون”، لافتا إلى أن “المؤسسات التي تحترم القانون لا يمكن أن تحتكم في بداية ونهاية الأمر إلا إلى الدستور وتأتي بعده القوانين التنظيمية التي تفسر اختصاصات وصلاحيات كل مؤسسة على حدة”.
ولم يتفق المتحدث ذاته مع مبرر الحكومة في “تهجمها” على مؤسسات الحكامة في كل مرة تخرج فيها بتقرير حول قضية من قضايا الشأن العام بالدفاع عن الحصيلة الحكومية، حيث اعتبر أنه “حتى إن كان لهذه المؤسسات رأي استشاري فقط لكن الحكومة في المقابل مطالبة بتقديم الدلائل الدامغة التي تثبث عكس المعطيات التي توردها هذه التقارير وليس سلوك أسلوب السجال واللغط السياسي”.
وفي هذا الصدد، اعتبر المحلل السياسي أن “تدبير الاختلاف في المعطيات التي توردها هذه المجالس والمؤسسات الدستورية وبين أرقام الحكومة يجب أن يتم على أرضية النقاش والحوار”، متسائلا: “ما المانع الذي يحول دون اجتماع الحكومة مع مؤسسات الحكامة والأخد برأيها في عدد من السياسيات العمومية في إطار إشراك الجميع”.
وعن أوجه هذا الحوار الذي دعا إلى تكريسه كثقافة في التعامل بين المؤسسات الدستورية المنتخبة أو المستقلة في تدبير شؤون المغاربة، أشار الوردي إلى “إمكانية تنظيم أيام دراسية أو لقاءات ثنائية حول أبرز القضايا والأوراش التي يفتحها المغرب خلال السنوات الأخيرة وحتى تبادل المعلومات”.
الاستقلالية لا تعني القطيعة
ومن ضمن الأسئلة التي يلح عدد من المهتمين بالشأن السياسي والدستوري على طرحها هي الموانع التي تحول دون تحقيق “تكامل حقيقي” بين المؤسسة التنفيذية والمؤسسات المكلفة بالحكامة، حيث يعتبرون أن الأخيرة تزود الحكومة بما يكفي من معطيات وإحصائيات لبناء سياسة عمومية توازي ما ينبض به الشارع المغربي.
وفي هذا الصدد، اعتبر المحلل السياسي ذاته أن “استقلالية المؤسسات الدستورية المكلفة بالحكامة عن السلطة التنفيذية لا تعني القطيعة معها”، مستدركا أن “الأصل في وجودها وإقرارها دستوريا هو التكامل والانفتاح على جهودها على أساس إقرار الحكامة الجيدة في تدبير الشأن العام وهذا ما لا يمنعه القانون”.
ومن جانب آخر، أورد المحلل السياسي أن “هذا التكامل لا يجب أن يؤدي إلى تداخل الاختصاصات”، مشيرا إلى أن “النص الدستوري فصل باستفاضة في أدوار وصلاحيات كل مؤسسة على حدة وحتى القوانين التنظيمية لم تترك مجال لبس في رسمها حدود واختصاصات كل مؤسسة دستورية”.
ولم يكتف المهتم بالقضايا السياسية والدستورية بإبراز أهمية التعاون بين المؤسسة التنفيذية ومؤسسات الضبط والحكامة، بل شدد على ضرورة “تعزيز علاقة المؤسسة التشريعية مع هذه المؤسسات واستثمار معطياتها في مساءلة السياسات العمومية وتقييم عمل الحكومة في إطار الجهود المشتركة لبناء برامج سياسية واجتماعية واقتصادية بمقاربة تشاركية وفعالة”.
وعن التشنجات التي أبدتها الحكومة خلال الفترة الأخيرة إزاء مخرجات تقارير مؤسسات الحكامة، وعلى رأسها الهيئة الوطنية للرشوة والوقاية من الرشوة بسبب ما كشفته من تأخر في تنزيل أهداف الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد وتأخر انعقاد لجنتها الوطنية، اعتبر الأكاديمي نفسه أن “هذا لا يعدو أن يكون خطابا لا يصلح إلا للاستهلاك السياسي والإعلامي ويبتعد عن الواقعية والجدية المطلوبة في التفاعل مع أرقام هذه الهيئات المستقلة”.
وفي تحليله لخطاب الحكومة إزاء هذه المؤسسات، أورد المحلل السياسي أنه “على أعضاء هذه الحكومة أن يعوا الفرق بين خطاب الفاعل السياسي وخطاب الفاعل العمومي”، مشيرا إلى أن “تدبير الشأن العام داخل المؤسسات الدستورية يقتضي وضع قبعة الفاعل السياسي والحزبي جانبا والانشغال بحل مشاكل المغاربة”.
الحاجة إلى حجج مفندة
وإذا كان المدافعون عن الحكومة يضفون الشرعية على خرجات وزرائها ضد هذه المؤسسات الدستورية بمبرر الدفاع عن الحصيلة الحكومية وتعزيز الإنجازات الحكومية خلال الـ3 سنوات الماضية، فإن معارضي “تهجم” و”انزعاج” المؤسسة التنفيذية من الواقع الذي ترسمه مؤسسات الحكامة عن أثر السياسات العمومية على المعيش اليومي يدعون لتقديم ما يثبت العكس بالحجة والبرهان.
ويكاد الوردي يتبنى التوجه الثاني حينما قال إنه “إذا كانت الحكومة تريد أن تجابه معطيات هذه المؤسسات فهذا لا يسقط حاجتها إلى الاستماع للآخر وتقديم حصيلة سياساتها بدون تشنج”، مسجلا أن “هذه التشنجات تكرسها معطيات المشهد السياسي المغربي الحالي التي تعطي للأغلبية الحكومية هيمنة عددية في البرلمان وسيطرة على المجالس المحلية والجهوية ما يجعلها تنزعج من أي صوت معارض حتى إن كان مؤسسة دستورية مستقلة”.
ولم يتفق المحلل السياسي ذاته مع من يعتبر أن “هذا النقاش صحي”، مشددا على أن “السجال والصراع المشخصن وغير المبني على المعايير الموضوعية يسيء إلى المؤسسات وإلى الدستور ويمس بصورة البروفايلات التي تقود هذه الهيئات”.
وتابع المتحدث ذاته أنه “لن يقبل من الحكومة أن تنزل إلى مستوى توجيه اللوم والتهجم على مؤسسات لم تقم إلا بتفعيل الدستور وتطبيق القانون والالتزام بالصلاحيات التي يؤطرها التشريع الوطني”، داعيا إلى “تجاوز سوء النية ومنطق الاستهداف الذي نسمعه في كل مرة تصدر فيها تقارير تكشف حقيقة التدبير الحكومي لعدد من الأوراش”.
وخلص الوردي إلى أن “ممارسة السياسة يجب أن تتم داخل الأحزاب السياسية وليس في تعامل الحكومة مع مؤسسات مستقلة وساهرة على إرساء مبادئ الحكامة الجيدة”، مسجلا أن “هذه التقارير مبنية على معطيات موضوعية لعدد من الخبراء والمتخصصين الذين تضمهم تركيبة هذه المؤسسات الدستورية”.