حوارات | سياسة

بوعزيز: “الهَرْسُ” بين الدولة والمجتمع يُغذي الاحتجاج ويلوح بـ”انفجارات” اجتماعية

بوعزيز: “الهَرْسُ” بين الدولة والمجتمع يُغذي الاحتجاج ويلوح بـ”انفجارات” اجتماعية

من موقع المؤرخ  قارب المصطفى بوعزيز، مدير مركز محمد بنسعيد أيت إيدر للأبحاث والدراسات، المشهد المغربي المتسم بعدد من الاحتجاجات القطاعية، ناسجا علاقة بينه وبين الاحتجاجات الشعبية، التي تجد محركها فيما يعتبره “الهرس” في الثقة القائم بين الدولة والمجتمع، بعد تضاؤل فرص توسيع هامش “المشترك المغربي”.

هذا الوضع يجد تفسيره، وفق حوار للمؤرخ المصطفى بوعزيز مع جريدة “مدار21″، في جزء منه في تراجع دور مؤسسات الوساطة، من أحزاب ونقابات، مقابل اتساع هامش الحيف، ما أفضي إلى “غضب بدون أفق أو بدائل”، بعدما أهدرت مجموعة من الفرص التي كان معولا عليها لبعث الثقة من جديد، ما يجعل المغرب يتجه نحو أفق لا يخلو من احتمالية انفجارات اجتماعية.

نص الحوار:

من موقعكم كمؤرخ، كيف تفسرون الاحتجاجات التي تعرفها عدد من القطاعات العمومية، مثل التعليم والصحة وغيرها؟

أولا، لا يمكن الفصل بين الاحتجاجات التي تعرفها قطاعات عمومية وبين الحراكات الشعبية الموجودة داخل المجتمع، وجواب المؤرخ يقارب الأمر على المدى المتوسط والطويل، وإعطاء رؤية شاملة قد تكون غائبة حتى عن الفاعلين ضمن هذه الاحتجاجات، أما تفسير هذه الاحتجاجات وأسبابها القطاعية فتندرج ضمن تخصص علم السياسة وعلم الاجتماع.

ما بين الدولة والمجتمع هناك علاقات جد معقدة حسب الأنظمة والتنظيمات الاجتماعية الموجودة، وبالنسبة إلينا في المغرب منذ عقود، وللتحديد منذ حوالي 1974، بدأت ثقافة أنه بمقابل الاختلافات الاجتماعية والسياسية هناك مشترك، وهو فوق الصراعات الموجودة، وهو التوجه نحو وطن المواطنة وليس فقط الوطن الترابي أو السياسي، وهو بعبارة أخرى الوطن الذي يشعر فيه الجميع بجواب واحد عندما يُطرح عليهم سؤال “ماذا يعني أن تكون مغربيا؟”.

الدولة كانت تحصر المغربي في الخضوع لها وفي ما تسميه الثوابت، لكن المجتمع بكل فئاته أراد توسيع هذا الفضاء المشترك، وما برز منه في البداية هو الإجماع حول الوحدة الوطنية، أي الوطن الترابي، لكن منذ ذلك الحين هناك عمل على توسيع هذا الفضاء ليشمل مثلا المدرسة والعيش الكريم والسكن اللائق وغيرها حتى لا تكون مجال صراعات، وإنما مجال حقوق مرتبطة بواجبات وبمنظومة قيم، وهذه الصيرورة التي انطلقت منذ ذلك الوقت لم تنته ومرت بمنعرجات مختلفة، ولم نصل بعد إلى استقرار لتحديد المشترك المغربي الواسع الذي يعطي الطمأنينة والتباري النزيه في الخلافات السياسية والتداول حول ممارسة السلطة، والذي يعطي في النهاية سمو الشرعية الشعبية على كل الشرعيات الأخرى.

هذه الصيرورة مازالت تخطو ببطء، وبمدٍ وجزر، وفي هذه السنوات الأخيرة، ابتداء من سنة 2019، وقع هَرس كبير بين الدولة والمجتمع، وهذا الهرس باعتراف المؤسسات الرسمية الدولة، ومنها تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي الذي تحدث عن هذا الهرس في الثقة بين الدولة والمجتمع، وتحاليل المندوبية السامية للتخطيط التي تحدثت عن سحق الطبقات الوسطى التي هي ضمان استقرار المجتمع.. بعبارة أخرى إن الفقر توسع والهشاشة مست فئات مجتمعية مختلفة..

وحتى بنك المغرب تحدث عن تفشي الرشوة بشكل كبير على لسان والي بنك المغرب الذي أكد أن السياسيين ومن يمتلكون السلطة يتحملون مسؤولية تدهور الأوضاع، كما أن المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية أنجز دراسة حول القيم التي كانت بالمغرب واختفت جميعها باستناء قيمتين هما الأسرة والدين..

هذا يبرز هول المساحة التي أصبحت موجودة، في الوقت الذي توجد فيه صيرورة تبحث عن المشترك وعن توسيعه لضمان استقرار البلاد، بينما ما يقع من طرف الدولة هو الهرس في الثقة وتقليص فضاء المشترك..

ماذا أفرز هذا “الهَرْس” داخل المجتمع علاقة بالاحتجاجات القائمة؟ وهل هناك من سبيل لتجاوزه؟

وصلنا إلى وضعية جد مهولة تعمد فيها الدولة إلى مسطرة التشريع من فوق بشكل عمودي، والاستشارات مع الفاعلين والمهتمين شكلية، في حين يُنزل القرار القادم من فوق بقوة الدولة، والمجتمع الذي كان لديه أحزاب ونقابات ومؤسسات تلعب دور الوساطة أصبحت عمليا مهجورة ومهمشة، وأصبح المجتمع بدون بديل يُعبر عن الغضب، وبات كل قطاع ينتج تنسيقيات وقيادات ظرفية في حين أن الغضب لم يعد يُعبَر عنه من داخل المؤسسات وإنما في الشارع العمومي والإضرابات.

بعبارة أخرى هناك هرس خطير بين الدولة المجتمع، ما أفضى إلى ما نراه الأن من غضب غير حامل لبدائل، وإنما حامل للرفض فقط، وهذه وضعية تسائل بالضرورة أفق المغرب وإلى أين تتجه البلاد.

لا مناص من الحوار الفعلي وليس الشكلي فقط، ومن وقفة تأمل للمغاربة، وأن يُمتص هذا الغضب ببلورة مشترك في كل قطاع من القطاعات لضمان المواطنة، بما تعنيه من سمو القانون ومساواة المغاربة نساء ورجالا أمامه، وتحمل كل طرف لمسؤولياته، وبما تعنيه من ضمان العيش الكريم في حده الأدنى للجميع..

آنذاك سيُجبر هذا الهرس ما بين الدولة والمجتمع بطريقة حضارية، ويكسب المغرب عمليا استقراره، ويضمن تأثيره ليس في الوطن الترابي فحسب، بل في المنطقة ككل وفي العالم، خصوصا وأن هذا الأخير يُعيد ترتيب نفسه بعنف وصراعات وحروب، بما يؤكد أنه لا مكان لمن ليس له عود صلب، وصلابة العود لن تكون إلا بخلق مشتركٍ يجد كل واحد من المغاربة نفسه داخله، ويكون الجواب عمن هو المغربي بمنظومة واضحة من قيم المغاربة واتفاقات المغاربة التي لا يدخلها شقاق.. ضمن ما يسميه السوسيولوجيون معادلة الوحدة والتعدد.

الوضع الحالي وصلنا إليه لأن هناك حيف اجتماعي كبير من جهة، والجواب عليه هو الغضب الاجتماعي الذي سِمته الأساسية هي التبعثر على القطاعات والمناطق.. فتوسيع مساحة الحيف يعني بالنتيجة توسيع مساحة الغضب بدون وسائط وبدون بديل..

ما موقع مؤسسات الوساطة، أحزابا ونقابات، من هذا الوضع؟ وما تأثير تراجع دورها؟

السياسة التي قامت بها الدولة، منذ عهد أوفقير والدليمي، هي تشويه الأحزاب والنقابات التي كان لديها دور كبير وأخلاق، عبر فكرة أنهم متشابهون ويبحثون عن مصالحهم، وبدأ هذا الخطاب المستمر في وسائل الإعلام مما أعطى نتيجته بتشويه الأحزاب والنقابات والجمعيات وحتى الصحافة، وهذا العمل الذي استمر على مدى أربعة عقود أنتج أن لا أحد أصبح يثق بالآخر.

وحتى الغضب عندما يتفجر في المجتمع أصبح المحتجون يريدون الحديث مع الملك مباشرة لأنه لم يبق لهم من يتحدثون إليه ويثقون به، وفي دولة مستقرة يجب أن تكون الوسائط مختلفة لأن رئيس الدولة لديه دوره لكنه لا يُحمَل كل الأمور..

الخطاب الذي انتشر أصبحت معه الأحزاب مُدنسة والذين ينتمون إليها عمليا هم المستعدون للدخول في هذا العمل، والأمثلة واضحة لمن يدخلون السياسة ويغتنون منها، ومن الريع السياسي والانتخابي وغيره.

هذا التراجع مُدمر للمجتمع، ولا يمكن القول بأننا سنخرج منه بسهولة، والخروج منه سيمر بألم كبير، أتمنى أن لا يؤدي بنا إلى تدمير الوطن المغربي.

هل أهدر المغرب فرصا لرأب الصدع في الثقة بين المجتمع والدولة ومؤسسات الوساطة؟

كانت فرصة فعلية خلال جائحة “كوفيد19″، لأن الدولة كان لديها رد فعل سريع والمجتمع استجاب رغم التضييق على الحريات عبر الحجر الصحي.. وكانت هذه فرصة لإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع وتم تضييعها مع الأسف.

ثم جاءت فرصة أخرى تتجلى في إعداد المشروع التنموي الجديد، وكان خلالها عمل من طرف حكماء هذه البلاد بمجموعة من المؤسسات التي تفكر مثل؛ مؤسسة علال الفاسي ومؤسسة عبد الرحيم بوعبيد ومركز محمد بنسعيد آيت إيدر ومؤسسة أبو بكر القادري ومؤسسة علي يعتة ومؤسسة المهدي بنبركة ومؤسسة عبدالله إبراهيم ومؤسسة عبد الهادي بوطالب..، وهي مؤسسات مختلفة من الناحية السياسية وما يجمعهم هو حمل أسماء شخصيات وطنية كبيرة.

هذه المؤسسات اجتمعت وقالت إنها لحظة بناء المشترك ووجهوا نداء أكدوا فيه انخراطهم في بلورة المغرب لمشروع تنموي جديد، وشددوا على أن البلاد في خطر وأن هناك هرس بين الدولة والمجتمع، والملك أكد في خطاب له أن المغرب بحاجة إلى عقد اجتماعي جديد وإلى حوار مغربي-مغربي وأن تُقال له الحقيقة ولو كانت مُرة..

هذه المؤسسات سارت أرادت من لجنة النموذج التنموي التي ترأسها شكيب بنموسى أن تقدم أحسن مقترح ممكن لأنها مكونة من شخصيات ذات ذكاء خاص كل في ميدانه، والتحدي كان هو كيفية تحويل هذا الذكاء الشخصي الفردي إلى ذكاء جماعي يعطي أفضل مقترح.

وكان رجاؤنا أنه عندما تخرج وثيقة النموذج التنموي الجديد أن تكون أرضية للنقاش بين المغاربة لستة أشهر على الأقل ثم تعدل بناء على نتائج هذا الحوار، لأن الهرس بين الدولة والمجتمع يتطلب جبره عبر النقاش والإشراك وليس عبر الأمر من فوق.. لكن مع الأسف لم تكن الاستجابة وكان التمسك بتطبيق الوثيقة.

واليوم ها هو يطبق النموذج التنموي، ونحن نرى النتائج في ورطة بنموسى في التعليم، لأننا فوتنا على أنفسنا لحظة حوار جماعي مُنتج يُجبر الهرس بين الدولة والمجتمع، ويعطي للملك جوابا إيجابيا على طلبه لحوار مغربي-مغربي.

الحوار لا ينبغي أن يكون مغشوشا بين أطرافه، بل يجب أن يكون عملا حضاريا مؤسِسا، يمكنه أن يقاوم الفساد الموجود والزبونية المقرفة القائمة ورداءة المسؤولين، لأن مع استمرار هذا الوضع سينمو الغضب الذي يغذي الاحتجاجات بدون أفق، ونتمنى أن لا نصل إلى انفجارات اجتماعية بدون أفق..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News