حوارات | سياسة

يحياوي: القوانين عاجزة عن ردْع الفساد ويجب تحصين الدولة من سطو “اللوبيات”

يحياوي: القوانين عاجزة عن ردْع الفساد ويجب تحصين الدولة من سطو “اللوبيات”

قدّم مصطفى يحياوي، أستاذ الجغرافيا السياسية وتقييم السياسات العمومية، قراءة مغايرة لموجة الاعتقالات التي طالت مجموعة من الوجوه السياسية الحزبية، مُفكّكا في الآن ذاته مدلول الرسالة الملكية الأخيرة إلى البرلمان الداعية إلى تخليق الممارسة البرلمانية تزامنا مع تفجر قضية “إسكوبار الصحراء” التي هزت الرأي العام الوطني وتعد بمفاجآت صادمة.

ويرى الأستاذ الجامعي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالمحمدية، جامعة الحسن الثاني- الدار البيضاء، في حوار خص به جريدة “مدار21″، أن التعاطي مع هذه القضية يستدعي قبل كل شيء تحصين الأحزاب والدولة من محاولات السطو المتكررة من طرف أشخاص وشبكات “اللوبيات” راكمت المصالح والولاءات بطرق غير مشروعة، وأصبحت واقع حال لا يمكن التصدي له إلا باستدعاء إرادة حقيقية للتخلص منه.

وفيما يلي نص الحوار:

ما قراءتكم لموجة الاعتقالات التي طالت مجموعة من الوجوه السياسية الحزبية أخيرا؟

تتضمن الدورة الجِيلية لحملات التطهير في المغرب ثلاث محطات أساسية تتمثل الأولى في  محطة 1971-1972 التي كان عنوانها الرئيسي محاربة الرشوة المفسدة لفرص الاستثمار والمنافسة الاقتصادية الشفافة، والثانية في سنة 1996 التي كان هدفها الأساس محاربة التهرب الضريبي واقتصاد التهريب، وأخيرا محطة يناير 2024 التي همت محاربة المخدرات والجريمة العابرة للحدود.

أعتقد أن السياسي والإداري في المحطات الثلاث معني باعتباره طرفا مباشرا وحاسما في محاربة الآفات الثلاث (الرشوة والتهرب الضريبي وتبيض الأموال المخدرات) المعرقلة لاستقرار دورة الاقتصاد الوطني والرفع من إنتاجيتها وتنافسيتها واستدامة عائداتها الاجتماعية والمالية والرفع من جودة آليات اشتغالها وشفافيتها.

وعليه، لا يمكن للمغرب أن يتقدم في مسار التنمية وفي تحصين اللحمة الاجتماعية في أفق كسب رهان الانتقال الديمقراطي، ورهان العدالة الاجتماعية والمجالية، ورهان التنافسية الاقتصادية على المستوى القاري والدولي، دون الحسم في جدوى إصلاحات بنيات الدولة على مستوى محاربة هذه الآفات الثلاث المزمنة التي لم تكف بعد الإجراءات والقرارات السياسية والتشريعات المتخذة في القضاء عليها بشكل نهائي.

حينما ألحّ تقرير النموذج التنموي الجديد على إحداث آلية التتبع والتقييم فيما يخص الأوراش الإصلاحية الموصى بها في أفق 2034، فلأن مسار التنمية والتقدم محفوف بمخاطر تضارب المصالح وما يدعمه من ظواهر الفساد الإداري ومن سيادة المحسوبية والرشوة وكل ما من شأنه أن يخالف مبدأ الشفافية والمسؤولية في تدبير الشأن العام.

هل يفهم من كلامكم أن هناك موقفا سياسيا للدولة من هذه الحملة في ارتباط بدعوة الملك لتخليق العمل البرلماني؟

في رأيي، إذا ما اعتمدنا قراءة تقاطعية بين الرسالة الملكية لـ17 يناير 2024 وبين ما ورد في خطاب عيد العرش في 29 يوليوز 2023 من توصيف دقيق للمدلول السياسي للجدية، يمكننا القول إن الملك حرص على  أن يؤطر الرهان السياسي خلال هذه السنة انطلاقا من أطروحة واضحة حول الإصلاح السياسي في المغرب، ترتبط بإصلاح بنيات الدولة من جهة ومقاربة تدبير الشأن العام من جهة أخرى باستدعاء ثلاث ركائز، يتعلق الأول منهما باستيعاب التعددية والتنوع، والثاني بالتراكم المتدرج للإصلاحات، والثالث تثمين المشاركة المواطنة خارج الزمن الانتخابي.

ولكي يستقيم هذا الترابط، حثّ الملك محمد السادس على ضرورة أن يقوم المبدأ الأسمى لهذه الأطروحة على خطاطة واضحة لتقسيم العمل بين الفاعلين الثلاثة المعنيين بالوساطة السياسية والاجتماعية، عبر الارتكاز على أحزاب جادة تحمل مشاريع مجتمعية متنوعة، ومجتمع مدني يقظ، وتنظيمات نقابية مستقلة.

وعلى هذا المستوى، يمكن الإشارة إلى أن الرسالة الملكية أكدت أن اشتغال هذه الأطروحة في السياق السياسي الوطني والدولي يحتم ضرورة السمو بالعمل البرلماني بالاستناد إلى أربعة تحديات مركزية في مقدمتها ضرورة تغليب المصالح العليا للوطن والمواطنين على غيرها من الحسابات الحزبية، وتخليق الحياة البرلمانية بإقرار مدونة للأخلاقيات في المؤسسة التشريعية بمجلسيها، تكون ذات طابع قانوني ملزم.

كما شددت الرسالة الملكية على ضرورة تحقيق الانسجام بين ممارسة الديمقراطية التمثيلية والديمقراطية التشاركية، إضافة إلى العمل على الرفع من جودة النخب البرلمانية والمنتخبة، وتعزيز ولوج النساء والشباب بشكل أكبر إلى المؤسسات التمثيلية.

في علاقة مع رسالة الملك إلى البرلمان، ماذا نقصد بتخليق الحياة البرلمانية والسياسية؟

الرسالة الملكية نصّت على أن تخليق الحياة البرلمانية والسياسية يقوم على مقاربة أخلاقية مشروطة بإطار قانوني ملزم لممارسة مسؤولية الانتداب الانتخابي السياسي. فالمطلوب إذن أن تتم صياغة إطار قانوني ملزم تقاس كفايته بدرجة استباقه لكل ما من شأنه أن يحيد أو يخالف ما يقتضيه مبدأ الاستقامة القابلة للمحاسبة والتقييم في تقلّد المسؤولية العمومية.

وإذا كان الأمر على هذا النحو، فيمكن القول إن هناك ثلاث ظواهر ينبغي أن يشملها التأطير القانوني للمدونة الأخلاقية للانتداب السياسي؛ سواء على مستوى البرلمان أو على مستوى المجالس الترابية، ويتعلق الأمر بتضارب المصالح والابتزاز والرشوة والإثراء غير المشروع. وهنا يبدو لي أن الأمر لا يرتبط فقط بإنتاج النصوص القانونية وبالردع وإنفاذ القانون، وإنما بالدرجة الأولى بالإرادة السياسية واستدامتها في التصدي لهذه الظواهر الثلاث.

في اعتقادي، الأمر يستدعي قبل كل شيء تحصين الأحزاب والدولة من محاولات السطو المتكررة من طرف أشخاص وشبكات راكمت المصالح والولاءات بطرق غير مشروعة، وأصبحت واقع حال لا يمكن التصدي له إلا باستدعاء إرادة حقيقية للتخلص منه. ذلك أن التقاطب الحادّ الذي بلغه المشهد الحزبي خلال 15 سنة الأخيرة، جعل من العملية الانتخابية لحظة تعبئة اجتماعية خالية من أي طموح للتأطير بناء على أطروحة مجتمعية واضحة.

وهو ما أدى في النهاية للجوء إلى إعمال سلوكيات مضرة بالغاية المثلى للانتخابات، حيث إن جزءا من هذه السلوكات راهن على شعار الطهارة الأخلاقية في محاربة الفساد، فسقط في استدعاء ولعب أدوار فوق السياسة في تعبئة الناخب، والجزء الآخر انتهى به الأمر إلى التسليم بجدوى اللجوء إلى أشخاص قادرين على تعبئة موارد وشبكات الولاءات الاجتماعية بدون اكتراث بسلامة وصحة تلك السلوكيات.

لكن، برأيك كيف يمكن تحصين الأحزاب والدولة من محاولات السطو التي تحدثت عنها؟

أعتقد أن تأطير المناضلين داخل بعض الأحزاب لم يعد يعتمد على آليات التكوين والتعبئة السياسية المعتمدة وفق ما تشترطه مسؤولية الوساطة السياسية، وإنما يعتمد على درجة نجاح القيادة في استقطاب هؤلاء المرشحين القادرين على التعبئة الاجتماعية المفضية للفوز بالانتخابات.

وبرأيي، فإن الحل لا يكمن فقط في القوانين بما فيها التصريح بالممتلكات ومحاربة الاغتناء غير المشروع، وإنما أيضا بامتلاك القيادات الحزبية الإرادة السياسية لعدم السقوط في السهل المؤدي إلى فقدان الاستقلالية والارتهان لعطية المفسدين، لأنه بدون العودة لأحزاب تشتغل بجد وباستمرار في جغرافية القرب لن نستطيع تفعيل الإرادة الملكية في تجويد الفعل السياسي.

ومن هذا المنطلق، لابد من التأكيد أن الموصل للتخليق هو تأطير وتكوين المناضلين ومنح الشباب والنساء الثقة في جدوى الانخراط في الأحزاب. ولكي تتوفر الإرادة السياسية، لابد من تجديد التوافق الجامع الذي توج الجيل الأول من البناء الديمقراطي في الربع الأخير من القرن الـ20.

في رأيي، المسألة ليست داخلية خاصة بكل حزب على حدة، وإنما مسألةٌ متعلقة بطي تقاطب حاد أوصل المغرب في نهاية العشرية الثانية من القرن الـ21 إلى تجاذبات حزبية خالية من أي نقاش سياسي إيديولوجي رصين حول جدوى الانتخابات على مستوى إنتاج نخب جديدة قادرة على تحمل مسؤولية تدبير الشأن العام سواء على المستوى الوطني أو الترابي.

في المحصلة، يمكن القول إن رتابة النقاش العمومي وفشل الأحزاب والنقابات في القيام بمسؤولياتها الدستورية على مستوى الوساطة السياسية والاجتماعية أدى إلى إضعاف مسالك التأطير المؤسساتي للمواطنين، وما صعوبة احتواء الآلية المؤسساتية للحوار الاجتماعي في قطاع التعليم والإضرابات التي عاشها القطاع خلال الأربعة أشهر الأخيرة إلا دليلا على أن هناك أزمة ثقة يجب التصدي لها بسرعة وبشكل عميق وناجع في إطار توافق بين الفاعلين الأساسيين المعنيين بالشأن العام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News