رأي

الغرب وبقية العالم

الغرب وبقية العالم

إذا حدقنا في الأحداث الجارية، وحللناها من منظار حضاري، فسنكتشف أن الصدامات الناشبة في أطراف مختلفة من العالم، إنما تقع على خطوط التماس بين الحضارتين الشرقية والغربية. بهذا المعنى، فحرب أوكرانيا المندلعة منذ سنتين، وحرب غزة التي تقول عنها تل أبيب إنها ستمتد لزمن طويل، وكذلك التهجير الخاطف للأرمن من ناغورني قرة باغ، ليسوا سوى تعبيرات ونذر أولى لما ينتظر العالم من مواجهات واستقطابات حادة سنجني منها الشرور والويلات، استقطابات، لن يكون منطلقها إيديولوجيا كما في الحرب الباردة، وإنما ستتغذى من خلفية دينية وحضارية قد تؤدي لصراع أصوليات ولصراع وجود.

وفق هذا التجسيم التنبؤي لبنية العالم المقبلة، تكون أوكرانيا واجهة الغرب التي اقتدها من الاتحاد السوفياتي، وتكون إسرائيل أيضا نقيلته التي دسها بالعالم العربي الإسلامي. ونفهم كذلك لم هذا التحشيد الغربي والكرم الحاتمي لأوروبا وأمريكا مع كل منهما.

امام هذا اللوحة، يحاول الغرب أن يداري الحقيقة، فتلجأ نخبه السياسية لحيلة ذر الرماد في عيون شعوبها وشعوب العالم، بالدفع بأن الصراعات المشتعلة الآن إنما تقوم بين دول ديمقراطية وأخرى سلطوية على حدودها، أي بين عالم ديمقراطي يحترم “شريعة” حقوق الإنسان، وعالم استبدادي لا يدين بهذه الديمقراطية، ولا يلقي بالا “لبدعة” حقوق الانسان، ولذا يضرب لنا مفكرو الغرب مثلا بنزاع تايوان الصينية، عفوا أردت أن أقول ” الغربية”، والصين ذات الحكم المركز، وبنزال روسيا “القيصر” بوتين، وأوكرانيا الناشز المتحرقة للانصهار في الناتو والاتحاد الأوروبي، وكذلك بإسرائيل التي يقدمونها واحة للديمقراطية في صحراء من “الاستبداد” العربي. وهم لا يستثنون طبعا من صفهم اليابان ذات المحتد الشرقي المقتلعة منه اقتلاعا والمصيرة أمريكيا الآن حربة غربية موجهة لصدر بكين. ولذلك حين تطرح القنوات الغربية سؤالها المقلق: لماذا يكرهنا الآخرون؟؟، غالبا ما تنهال عليها الإجابات الخاطئة التي تركز بالخصوص على أن بقية العالم، إنما تفعل ذلك، لأنها تحقد على الغربيين تقدمهم الباهر في كل المجالات، وتنفس عليهم رغد عيشهم وتفوق نموذجهم الليبرالي الديمقراطي.

ربما يكون في هذا الطرح شيء من الحقيقة من وجهة النظر الغربية، لكنه لا يمثل إلا جانبا ضئيلا منها . فللديمقراطية الكاملة سياقات وشروط، وللشعوب تجربتها التاريخية الخاصة التي تحدد مساراتها، زد على ذلك ان هذا الغرب الذي يثخن دول الجنوب بليبراليته المتوحشة، أو بإمبرياليته، حائلا بينها وبين استيفاءها للعوامل الممهدة لانبجاس الديمقراطية، هو من يحاسبها حسابا عسيرا عليها قد يصل به حد التدخل عسكريا ” دفاعا” عنها وعطفا على ذلك عن مصالحه، وهو من يكيل في القضايا الدولية بمكيالين، ومن يصر أن يزرع لدى الجميع حتى نموذجه الأخلاقي والقيمي والحياتي الذي يستوحيه من فهمه الخاص لما بعد الحداثة، كما أنه أول من يخرق القانون الدولي على الركح العالمي، عندما يكون الطرف الآخر دولة من الجنوب الذي لا يتورع أن يضم له حتى الصين وروسيا والهند.

لا يريد الغرب إذن أن ينزل من عليائه، ولذلك هو يرمي ويفرق على بقية العالم أقذع النعوت من استبداد، وظلامية، ورجعية، وشمولية، وتنكر لحقوق الإنسان، ليؤبد ريادته، وليتهرب من أي تفاوض يقود إلى إعادة ترتيب العالم على اساس منصف وعادل من خلال الاعتراف بالهويات والثقافات الأخرى وبتوزيع القوة العالمي الجديد، وهذا منحى خطير جدا، سيقود العالم إلى حافة الهاوية، لأنه يأتي في وقت انهدم فيه النظام الدولي تغيب فيه الدولة الدركية القادرة على الضبط وتحقيق انتظام المشهد الدولي، ولذلك أعتقد اننا فعلا نعيش وضعية حرجة وغير مسبوقة لا تعوزها أعواد الثقاب التي قد تضرم حرب عالمية ثالثة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News