مجتمع

صبار مقاوم للحشرة القرمزية.. “ابتكار مغربي” يزرع الأمل في نفوس فلاحين بالصحراء المغربية

صبار مقاوم للحشرة القرمزية.. “ابتكار مغربي” يزرع الأمل في نفوس فلاحين بالصحراء المغربية

هم فلاحون بسطاء ينحدرون من دواوير متفرقة بمنطقة تفراوت بوكماي بإقليم طانطان، والتي نحتتها الطبيعة بسخاء هنا بالصحراء المغربية، لكل واحد منهم حكاية مع نبات لا تعرف أراضيهم التي تركها لهم الأجداد، غرسا غيره. تحت شمس حارقة، اصطفوا ينتظرون شاحنة محملة بأمل “صنع في المغرب”؛ أمل يعيد لهم الحياة بعد أن جعلها “الوحش الأبيض” غيهبا لا ملامح له.

وبعد انتظار يحسب من عمرهم تحت قرص الشمس؛ وصلت الشاحنة؛ وبدأ علي ورفاقه حمل شتلات الصبار المقاوم للحشرة القرمزية، طريق تلقفهم للصبار وحدها حكاية، إذ لا يهمهم الشوك ولا خشونة ملمسه، بل يعانقونه بحفاوة كأنه ابن بار عاد بعد سفر طويل من وجهة مجهولة.

يحملونه ما بين أيديهم وهم يتبادلون النظرات لبعضهم البعض بابتسامات صافية كوجه الشمس التي تغطي المكان، ثم يشرعون في تقسيم حصصهم، حصص من شتلات أمل انتصر على حشرة التهمت آلاف الهكتارات من المحاصيل وجعلت حياة الفلاحين هنا بهذا الإقليم وبأقاليم مغربية أخرى “فيلم رعب”.

الهرب أو المواجهة

رافضا تضييع الوقت، يشرع علي في تقليب أرضه وإعدادها لاستقبال مرحلة “الاستصلاح” قبل غرس شتلات الصبار المقاوم، وهو يتحدث لجريدة “مدار21” الإلكترونية، عن معاناته ومعاناة الآلاف من الفلاحين المغاربة مع الحشرة القرمزية، أو الكوشي حسب لسان أهل الأرض هنا “جعلت حياتنا جحيما، كنا نخوض حربا ضروسا ضدها كل يوم، لا المبيدات ولا القلع نفعا، وحدها دعواتنا لله جعلت “حلم” صبار مقاوم لها ممكنا.. الله كبير”.

هجوم الحشرة القرمزية لحق أضرارا اقتصادية واجتماعية وبيئية سواء بالفلاحين أو السكان المحليين، الذين اضطر عدد منهم إلى الهجرة نحو مناطق أخرى بحثا عن مورد رزق جديد، ويؤكد الفلاح الأربعيني علي على أن هذه الحشرة أجبرتهم على العيش في الظلام بشكل حرفي، لأنها تنجذب نحو مصدر الضوء ليلا، وهو ما يجبرهم على إطفاء الأضواء.

سيدي محمد، واحد من بين الفلاحين الذين جربوا الهجرة هربا من قهر الحشرة وظلما إلى المدينة،وتحديدا أكادير، للبحث عن مصدر رزق آخر غير الصبار وعالمه، لكن “حنين الأرض والبلاد” أعاداه لحيث ولد ويعيش “وسأظل هنا إلى أن أموت.. صحيح الحشرة القرمزية عذبتنا لسنوات والتهمت محاصيلنا وقطعت أرزاقنا، لكنني أؤمن الآن أن ذلك قدر”.

الفلاح الخمسيني، وهو أب لأربعة بنات، كان يعتمد على الصبار لتأمين قوت يومه، حيث يبيع غلته لوحدات توضيب وتحويل الصبار وتثمين المنتجات المشتقة (استهلاك الفواكه الطازجة، التحويل الصناعي الغذائي، علف الماشية، مستحضرات التجميل والمنتجات العلاجية المختلفة)، والتي رخص لها من قبل المكتب الوطني للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية، لتسويق منتوجاتها محليا وجهويا وأحيانا دوليا.

 

العدو

هذه الحشرة المتناهية في الصغر، والتي يصفها الفلاحون هنا ب”العدو”، تصيب الصبار فقط دون غيره من النباتات، بحسب الخبير الفلاحي محمد الصباغي، وظهرت في 2014 في المغرب، لونها أحمر داكن وتفرز سائل “الكرمن”، وما يزيد خطورتها آلية تكاثرها التي تعقد طرق التصدي لها، حيث تضع الإناث بيضها بعد التزاوج، وسرعان ما يتحول إلى حوريات دقيقة تفرز مادة شمعية بيضاء على أجسامها لحمايتها من ارتفاع درجات الحرارة وشح المياه، ويظهر الصبار حينها كأنه تم طلاؤه بمسحوق أبيض.

 

ويؤكد الخبير في حديثه مع “مدار21” الإلكترونية، أن هذه الحشرة استطاعت التهام جميع محاصيل الصبار بمختلف المناطق المغربية، والتي كانت تقدر قبل زحفها عليها ب 160 ألف هكتار، وهي المساحة الذي تم بلوغها وفق “مخطط المغرب الأخضر”، في الفترة الممتدة ما بين 2008 إلى 2014، رغم أنه كان من المتوقع بلوغها في 2020.

لم تدم الفرحة كثيرا ببلوغ الأهداف، ولم يدم الاحتفاء بالنجاح الذي كان بطولة مشتركة ما بين وزارة الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات، بمختلف مصالحها الجهوية والفلاحين، فبعد أشهر فقط وتحديدا أواخر 2014، ظهرت الحشرة القرمزية، والتي يشير السباغي، الخبير الفلاحي وصاحب عدد من الأبحاث والمؤلفات في البحث العلمي الفلاحي إلى أنه “لم نعرف كيف دخلت للمغرب، لأن المتعارف عليه أنها تنتشر في المكسيك وأمريكا، وطبعا لم يكن لدينا أية وسيلة لمحاربتها أو مكافحتها أو الحد من انتشارها لمدة ثلاث سنوات (لحدود 2017)”.

ولادة الأمل المقاوم 

انتشار الحشرة في أقاليم المغرب جعل الجميع في حالة تأهب، وبالفعل سارعت الوزارة لوضع مخطط استعجالي لمواجهتها، يرتكز على ثلاث محاور، أولها التداوي بالمبيدات، وثانيا قلع الأشجار المصابة، وثالثا البحث العلمي الفلاحي، والذي أشرف عليه المعهد الوطني للبحث الزراعي، (تأسست أولى لبناته سنة 1914)، وتم العمل عليه وفق ثلاثة مراحل تتلخص في البحث عن مكافحة طبيعية، والبحث عن أصناف مقاومة للحشرة وأيضا معرفة حياتها البيولوجية ecobiologia.

ويكشف السباغي، والذي تولي مهمة المنسق الوطني الاستعجالي لمقاومة الحشرة القرمزية، أن البحث عن حل لانتشار “الكوشي”، انطلق منذ يوليوز 2016، “جزء منه كان ينجز في المختبر وآخر في الميدان، حيث تم أخذ عينة من المجمع الوراثي للأصناف الوطنية بأكادير، وقررنا نقلها لسيدي بنور، والذي يعد واحدا من بين أكثر الأقاليم المغربية تضررا، حيث منحنا فلاح هكتار من أرضه تطوعا، للقيام بالتجارب”.

ويتابع شارحا :”قمنا بتجارب ميدانية في غشت 2016 وتتبعنا نتائجها بعناية والتي بينت أن هناك أصناف مقاومة لهذه الحشرة القرمزية، وبعد التأكد من ذلك من خلال تجارب معاكسة، تم جلب لوحات صبار متضررة ووضعت تحت اللوحات المقاومة، وبعد مدة، اكتشف الباحثون أن هناك 8 أنواع مقاومة وتم تتبعها في المختبر وفي أماكن مغطاه، وتبين أن النتائج المحصل عليها في الميدان إيجابية وحاسمة، وتبين أن هذه الأنواع مقاومة جدا للحشرة وهي :مرجانة ويلارة وكرامة وغالية وأنجاد والشراكية وأقرية وملك الزهر.

على أرض الواقع

نجاح التجارب ميدانيا وبالمختبر دفع الوزارة لتسريع قرار إنجاز “حظيرة للأمهات” في منطقة الزمامرة، والهدف منها كان “تكثير” هذه الأصناف المقاومة، والتي تم تسجيلها في السجل الرسمي للأصناف والأنواع والنباتات في المغرب. ولأن الصبر مرتبط بالصبار، كان لزاما على الباحثين انتظار سنتين إلى حين إنتاج ألواح صبار كاملة، ليتم بعدها وضع 11 منصة جهوية، في المرحلة الممتدة ما بين 2018 و 2021، والتي تقدر مساحة كل واحدة منها ب110 هكتارات وكثافتها 100 نبتة في كل هكتار.

ويضيف المسؤول بالمعهد الوطني للبحث الزراعي :”ومن هذه المنصات، نأخذ الشتلات لغراسة المناطق المتضررة من الحشرة القرمزية ويتم منحها للفلاحين بشكل مجاني”، مشيرا في المقابل إلى أن المعهد الوطني يقوم بتحضيرها، فيما تشرف الوزارة وعبر مصالحها الخارجية على تعيين المناطق التي سيغرس فيها وذلك لإعادة إعمار ما يناهز 120 ألف هكتار إلى حدود عام 2030″.

علي وسيدي أحمد من بين العشرات من الفلاحين بالمنطقة، الذين استفادوا من برنامج إعادة غرس الصبار، يؤكد علي أنه ورغم مدة الانتظار التي تفرضها قوانين الطبيعة ليصبح الصبار منتجا، إلا أن “تربية الأمل تستحق الإنتظار” وفق تعبيره :”هذا الصبار المقاوم للحشرة علمنا أن نقاوم الظروف.. إنه الأمل الذي أعاد لنا حياتنا، هذا الصبار يعلمنا منذ كنا صغارا دروسا ومازال يعلمنا لحد الساعة”.

أما سيدي محمد، فيشدد في حديثه للجريدة على ضرورة مواكبة الفلاحين ودعمهم في مرحلة ما قبل بدء الإنتاج، داعيا وزارة الفلاحة لتنظيم حملات توعية لفائدتهم لتطوير عملهم الفلاحي والاستفادة من التطور الذي يشهده المغرب لتحسين وضعية الفلاحين ومعيشتهم.

لحسن الميهي، المدير الإقليمي للفلاحة بطانطان، أكد في تصريح لجريدة “مدار21” الإلكترونية، أن استبدال الأشجار المتضررة بأخرى مقاومة بالمنطقة، سيمتد لمدة تقارب 10 سنوات، مؤكدا أن الوزارة أشرفت على غرس 200 هكتار بمنطقة تافراوت بوكماي في 2022، وتخطط لغرس 600 هكتار آخر السنة الجارية.

وأشار أن الهدف من عملية غرس الأنواع المقاومة هو إعادة الإنتاج المنتظم في المنطقة والتي كانت تعرف بجودة صبارها، مبرزا أن مرحلة استصلاح الأراضي (قلع الأشجار المتضررة والحفر والغرس) والتي تم إسنادها لمقاولين متخصصين عن طريق صفقات مع الوزارة، ستحتاج ما بين عام وعام ونصف، ومرحلة الإنتاج ستحتاج من 3 إلى 4 سنوات.

وبخصوص التكلفة المالية، أشار المدير الإقليمي في حديثه مع الجريدة، إلى أنها تتراوح ما بين 9000 و10 آلاف درهم لغرس هكتار واحد.

في انتظار انتصار العلم

ومن بين معيقات إعادة إحياء الصبار بالمناطق الصحراوية، يؤكد المنسق الوطني للبرنامج الاستعجالي الدكتور محمد السباغي، أن هذه النباتات المقاومة من الصعب إكثارها أو تطويرها أو مساعدتها على الانتشار في مناطق تفوق فيها درجة الملوحة 4 درجات إضافة إلى أن الرطوبة غير الكافية في بعض المناطق تصعب ذلك، حيث يشترط أن تقترب من 60 في المئة لغرسها. أما بالنسبة للماء، فيقول الخبير الفلاحي أن هذه الأنواع لا تتطلب الكثير، “فقط القليل من الماء في بداية نموها..  150 إلى 250 ملم في السنة كافية للتطور والعيش والإنتاج”.

ويشدد السباغي بدوره على دور البحث العلمي الفلاحي في تطوير القطاع الفلاحي بالمغرب والانتصار على التحديات الطبيعية وغيرها، “خير مثال على ذلك، أنه بالبحث العلمي سيستطيع المغرب مواجهة الحشرة القرمزية، وأيضا تم اكتشاف حبوب مقاومة للجفاف، أعتقد أن هذا تطور هائل بالمغرب”.

ويختم حديثه “إذا وظفنا إمكانيات كبيرة في البحث والباحثين سنتمكن من إيجاد الحلول لتجاوز المعيقات، وسنتمكن من الوصول لأمن غذائي، سيما أن جائحة كوفيد أتبتث أنه لا ثقة في التبعية، لذلك أعتبر البحث العلمي والفلاحي طريق الخلاص”.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News