رأي

 حكاية الذاكرة

عبد الرحمان بلعياشي

كُتبت هذه الحكاية وغيرها في فترات متباعدة من مسار محاولاتي الكتابية. لكل حكاية سياقها وأسباب نزولها ولغتها وبناؤها ومسارها الخاص. وقد حاولت ألا أدخل عليها تغييرات أو تعديلات إلا كان مما اقتضته في الغالب القاعدة النحوية الفطرية، وذلك حفاظا على عفويتها وصدقيتها السردية. أو لنقل حفاظا على إنسانيتها بكل بساطة.”

الذاكرة هي وحدها من تقرر في كل شيء. تقرر في النسيان والتناسي وفي التذكر وفي الذاكرة نفسها. الذاكرة لا حدود لها. لو أمكنها أن تخترق الزمن المستقبلي، لفعلته. وقد فعلته فعلا، لكن فقط في أفلام الخيال العلمي، وتلك التي تستشرف المستقبل. إنه التحدي الكبير لها ولو أن ذلك يدخل في عالم الغيبيات، أي في اختصاصات غير اختصاصاتها. أما أن تتوغل في الماضي فذلك أسهل لها من أي شيء آخر. إنها الشريط الذي يسجل ويدون كل شيء. لا تنسى. لا تغفل عن شيء. لا تترك صغيرة ولا كبيرة إلا وتلتقطها ومن كل جوانبها؛ الأحادية والثنائية والثلاثية والمتعددة الأبعاد وبتدقيق بالغ. لم يكن مع ذلك من السهل استحضار كل شيء محفوظ في ذاكرته دفعة واحدة. كل الأشياء تبدو مهمة ومستعجلة؛ لذا أحس بارتباك شديد، وفي نفس الوقت بحيرة غير معهودة لأن الرغبة في البوح كبيرة، رغبة تتزاحم فيها الأفكار والمشاعر بقوة. فكان إذن لابد من وقفة متأنية ومدروسة. لا بد من العودة إلى نقطة الصفر. النقطة التي لا نقطة وراءها. النقطة العدمية. النقطة الأم.

أمسك رأسه بين يديه الكبيرتين بقوة شديدة وأخذ يحك أو بالأحرى يدفع ويضغط بهما في وجنتيه وكأن ألما شديدا ألم به أو أراد أن يستخلص منهما شيئا ما. كان كل مرة يتردد في الكلام أو التفكير أو التذكر أو فقط التأمل. كل شيء من حوله يبدو غائبا. النور والظلام سيان. أغمض عينيه الصغيرتين والعميقتين عله يخترق الفراغ والضباب القاتم والحالك الذي يغشي بصره وبصيرته. رأسه يكتنف كل حياته ومعاشه. تجاربه الناجحة والفاشلة. حياته كلها مزيج بين هذا وذاك. مزيج من هذا وذاك.

كان المحيط يبدو وكأنه عدوه الأول أمام رغبته المتدفقة والعارمة في البوح والكتابة، الرغبة الملحة التي لا تقبل الانتظار أو الاستئناف. الرغبة مثل المرأة، لا يمكن مقاومتها. عليك أن تستجيب لها كما لو كانت القدر المحتوم. المكتوب. المنقوش. المحفور. الخالد والثابت. أهواؤها لا متناهية ونزواتها مثيرة وجذابة. والاستجابة لها ضعف وقوة. ضعف، لأنك لا تفكر في عواقبها فتنحني لها كما ينحني العبد أمام سيده؛ وقوة، لأنك تحس برجولتك وذكوريتك؛ تشعر كما لوكنت الثور الذي يمشي وراء البقرة. تفكير أقل ما يقال عنه أنه شاذ وبذيء وبالتالي لا يليق بأمثالك. لكنها الذاكرة. لا يمكن منازعتها في شيء على الإطلاق.

كان بين كل هذه التخيلات لا يزال يسير وراء الخيط الأبيض الذي ينور له الطريق في الاتجاه المعاكس، وكان كل مرة يريد أن يتوقف، ظنا منه أنه وصل إلى نقطة البداية، أحس أن لاتزال في الشريط دورات لابد أن يقوم بها. فجأة أحس بجسده يرتعش ومخه يعيش حالة غثيان قوي جراء الدوران السريع الذي يسبق التوقف النهائي. لم يعد يرى شيئا، كان كل ما يراه الآن أو يتخيل له هو ضوء ساطع قوي وحاد يشعره بالوصول إلى المبتغى. كانت سعادته أكبر باعتقاده أنه ماسك برأس الخيط، لكنه في الوقت نفسه تعس مخافة ألا يكون ممسكا بالرأس الصحيح أو المناسب. كان أيضا يخشى ألا يعرف كيف يمسك بالخيط مخافة أن ينقلب ضده ويصبح الخيط هو من يمسك به، وينقلب السحر على الساحر ويقع الفأس في الرأس فيحدث ما لا تحمد عقباه. لكن بعد تمعن كبير وعميق، قرر أن يعتبر المسألة لهوا ومرحا ومزحا، مقتنعا عن سابق تجربة أن الأمور عندما تؤخذ بالهزل، تكون ميسرة ويكون وزرها خفيفا في حال الإخفاق؛ والعكس صحيح، كلما كنت أكثر جدية في التعاطي مع الأشياء، يكون وزرها ثقيلا وعواقبها مهولة خاصة عندما تأتي على غير المتوقع.

تلك كانت الخلاصة. وذلك كان القرار. الأمر لا رجعة فيه. هكذا يرى، أو هكذا يتصور. لكن ألا توجد أشياء خارج الذاكرة. هل هذه الذاكرة فعلا تستطيع أن تقول كل شيء؟؛ بما في ذلك الأشياء التي لم تراها ولم تسمع عنها؟ هل بإمكانها أن تخبره عما كان عليه قبل أن يحط الرحال بهذه الحياة؟ هل الذاكرة فعلا قاصرة ومقصرة إلى هذا الحد؟ هل يدخل هذا التقصير، إن جازت تسميته بالتقصير، ضمن العجز أو التجاوز؟ هل يمكن للذاكرة أن تنعزل وتنفصل ولو لبرهة عن حياته؟ أم أن الأمر يفوق بكل بساطة تفكيره المحدود والضيق. قد يعالج المسألة ويجد لها الحل باستخدام الذاكرة المعايشة للحظات غابت عنه، بفعل طبيعة المرحلة، عن طريق معايشة نفس لحظات الغير. إن كان الأمر كذلك فقد عاش وعايش لحظات قدوم الكثير من إخوته من الذكور والإناث. إنه مخرج ممكن لمعضلة فراغ ذاكراتي. كان كل مرة يحضر ولادة أحد إخوته لا يتردد في الإحساس باللحظة كما لو كان هو من يولد، كما لو كانت لحظته، فيعيشها ويعيش عظمتها بكل جوارحه وأحاسيسه. وكان الأمر يبدو له في كل مرة معجزة طبيعية تفوق الخيال البشري. في لحظة لا تقاس بالمعايير الزمنية المتعارف عليها، ينضاف مخلوق جديد إلى القائمة.

يتوقف الزمن والزمان. تتوقف الحركة والحياة لتحيا حياة جديدة. الجميع يهب حياته ليزداد مولود جديد. كل الصعاب تدلل وكل الآلام تنسى وكل الأوجاع تصبح سعادة وكل الصرخات تصبح معزوفة تمتزج بسيمفونية يرسم لحنها الأولي وبارتجالية جميلة ومتناغمة مع صراخ الجنين. لا تساوي كل الآلام والأوجاع والإكراهات وثقل الجنين طيلة التسعة: اللحظة نفسها التي يلتئم فيها الجميع لينتظروا الصرخة الموعودة. صرخة الحياة والأمل والسعادة وثمار المجهود والشقاء. لحظة التتويج والخلاص.

كانت كل لحظة يعيشها من هذا القبيل يرى فيها ذاته، فكان بالتالي يعيشها بكل إيمان وخشوع وخنوع غريب. وكان كل مرة يتشبث بالحياة أكثر من ذي قبل؛ تشبث يصل حد القداسة في وقت من الأوقات. كل ولادة يحب فيها أمه حبا جديدا ومتجددا. أمه التي لا تكل من الولادة والأولاد. أمه التي لم تقرر أبدا في مسألة الإنجاب لكنها تقبل بها وتؤمن بها كواحدة من وظائفها الطبيعية؛ وككل الأمهات، تؤمن بها أيضا كواحدة من واجباتها الزوجية إن أرادت نيل رضا زوجها وقبول المجتمع أو الجماعة لها. إنها طريقة أخرى لتجد لها مكانة بين النساء، بين الرجال، داخل القبيلة والعشيرة. إنها لحظة اعتبار وامتياز لكل امرأة تكون بطلة وصانعة لحدث الولادة. أم منهكة بالشقاء المنزلي والأعمال في الحقول وتحضير الولائم للعمال والخدم والخماسين والرباعين والضيوف الوافدين على البلدة من فقراء ومحتاجين، والعطارين والموسيقيين، الروايس، والمهرجين وأولاد سيدي احماد وموسى وإكنيون إمديوت، توءمي إمديوت، والقائمة لا تحصر.

أم لا تقول ابدا لا لكل هذه الأشياء وللحمل والولادة. يتذكر، كما لو كان اليوم، أن أمه تزاول كل هذه المهمات والأعمال والمسؤوليات إلى أن تدخل وحيدة، دون أن تخبر أحدا إلى تمصريت (غرفة بالأمازيغية) لتضع مولودها الجديد. كانت تطلب منه أن يذهب لينادي للا آشا، للا عائشة، زوجة عمها التي رعت بفعل حضورها كل الولادات. كانت لا تنتظر مجيئها ولا تصرخ خشية إزعاجنا كلنا أو بسبب الحشمة أو الرغبة في التستر. أكيد أنها تصرخ لكنها تفعل ذلك في صمت رهيب؛ صراخ صامت يتكرر كل سنة ونصف أو سنتين ولمدة طويلة. كانت في قرارة نفسها تعتبر المسألة عملا روتينيا شبيها بباقي الأعمال التي تقوم بها بشكل روتيني واعتيادي دون أن ينتبه أحد إليها لأن ذلك يدخل في اعتقادها ضمن واجباتها. ربما الأمر يدخل ضمن الطابوهات الكثيرة التي تكبل التفكير والقول في تلك الأوساط المحافظة وفي تلك الأزمنة. الولادة لها إيحاءاتها وإحالاتها. توقظ الذاكرة وتنعش المخيلة، لذا فالناس يعيشونها ولا يتكلمون عنها.  يتذكر جيدا مرة ومرات أن أمه خرجت من تمصريت لحظات فقط بعد الوضع، لتباشر بعد ذلك وبشكل طبيعي الأعمال المنزلية الأخرى. لم يستوعب الابن تلك الحركة في وقتها وفي تلك السن، لكنها بقيت محفوظة ومحفورة في ذاكرته، وتؤكد بذلك أن الشيء نفسه قامت به أمه يوم ولدته. تلك كانت المرة الأولى، على الأقل التي احتفظت بها ذاكرته، لأن في المناسبات الأخرى يتم الوضع في الليل أو في الصباح الباكر كما لو كانت الطبيعة تساعدها على التكتم والحشمة التي تحيط بهكذا اللحظة المقدسة للغاية. كما تذكر مرة أن أمه كانت تقضي بعض الأغراض في البيت عندما استوقفها أمر ما أمامه ولم تكن بطنها منتفخة أو بالأحرى لم تثر بطنها انتباه الغير لطبيعة الملابس الفضفاضة التي ترتديها. ثوب ابيض غير مخيط يلبس بطريقة تقليدية ويثبت بخلخال فضي بهي. هذا الكتان يكون لونه في الغالب أبيضا أو أسودا أو أزرقا أو رماديا. وهو غطاء خارجي يلبس فوق الملابس الاعتيادية اليومية ربما بنية منح مرتديها بعض الوقار والتصنيف من حيث هو لباس خاص بالنساء اللاتي بلغن سنا معينة.

المهم أنها كانت قبالة ولدها هذا وبدا بكل عفوية يلعب ويعبث بذلك الخلخال الفضي القديم الذي بدأت تتآكل الرسومات والكتابات القديمة المنقوشة على القطعتين النقديتين المتثبتين على رأسي الخلخال الذي يثبت بدوره أطراف الكتان في جزئه الأعلى؛ اعتقد بسذاجة، عندما لاحظ أن بطن أمه منتفخة، أن أمه تخبأ بداخل الكتان، كما جرت العادة، أشياء وأغراض معينة. لكن أمه تفهمت سذاجة الولد الطفولية، فضحكت ضحكة بريئة لايزال يرى ملامحها كما لو كانت اليوم؛ وأجابت بجواب جعلت الولد ينسى موضوع البطن وانصرفت بهدوء لتتمم باقي أعمالها. ولم يمر وقت طويل حتى وضعت الأم مولودا آخر ككل مرة في صمتها المعهود. مولود نعرفه كلنا لأنه منا؛ نتعرف عليه بالرائحة والصراخ الباكر القادم من الغرفة المجاورة ومن حركة بعض نساء البلدة وبالطبع للا آشا دون نسيان جدته من أبيه.

ما أن تنبش في الذاكرة حتى تستيقظ وتفيض. تبدو كالمطر يبدأ بالتساقط نقطة نقطة وبعدها ينزل كالخيط من السماء وحينئذ لا أحد يستطيع أن يوقفه فتمتلأ بذلك الجداول والروافد والأنهار والوديان. وقد يسبب في كوارث إن غابت الألطاف الإلهية.

لكن يجب أن نعترف من جهة أخرى أن الذاكرة مستبدة، لأنها تملي علينا ما يجب أن نعلن عنه بالكتابة والبوح. كلنا نتذكر ما فات وكان وصار، لكننا نجد أنفسنا في الغالب  عاجزين عن صياغة ذلك، ليس من باب التقصير اللغوي رغم أن هذا الاحتمال وارد أيضا، لكن لأن الذاكرة تفرض علينا رقابة أو رقابات ذاتية تجعل لساننا يتلعثم فيمر بجانبها دون أن يحاول أو يغامر في الكشف عن كل تفاصيلها، وذلك مراعاة للتقاليد والأعراف والحشمة التي تبين ومن جديد وبالملوس أن الذاكرة ليست فقط مستبدة بل تنصب نفسها مدافعة عنا بحجة أن ما تقوم به من فرض للقيود ووضعها أمام البوح هو لحمايتنا من المجتمع، حيث ليس من مصلحتنا أن  يعرف عنا هذا المجتمع كل شيء، رغم أن لكل منا ذاكرته، والكثير سيجد نفسه بالطبع فيها لكن لن يجهر بالحقيقة، فيسير مع تيار النفاق الذي ينخر ككل مرة، وبوتيرة متزايدة، جسم هذا المحيط وهذا المجتمع.

الذاكرة إذن هي منقذتنا في الاتجاهين: اتجاه البوح والمكاشفة، فتخفف همومنا بتفريغ ما بداخلنا. وفي اتجاه الكتمان بحجة الحماية والإبقاء على نفس المكانة الاجتماعية الكائنة والتي نتمتع بها داخله وبين الجماعة والعشيرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News