سياسة | موقف

معسكرات جيوسياسية وحرب مواقع في منطقة شمال افريقيا تظهرها أزمة المغرب و تونس

معسكرات جيوسياسية وحرب مواقع في منطقة شمال افريقيا تظهرها أزمة المغرب و تونس

بعد مرور 33 سنة من تأسيس اتحاد المغرب العربي، تبخرت كل الآمال و الاحتمالات الممكنة لاخراجه من غرفة الانعاش بعد الأزمة الدبلوماسية التي عصفت بين المغرب و تونس ازاء استقبال الرئيس التونسي قيس سعيد لزعيم الكيان الوهمي لجبهة البوليساريو. ثلاث عقود مرت دون تحقيق نتائج ملموسة لصالح الشعوب المغاربية و اهدار فرص التنمية و الاندماج و التكامل الاقتصادي لسوق تقدر ب 100 مليون نسمة لكنها الأقل اندماجا في العالم.

ما يقع اليوم في منطقة شمال افريقيا و المغرب العربي بالخصوص هو بداية صراعات من نوع آخر، صراعات جيوسياسية و اقتصادية بين مختلف المعسكرات التي بدأت تتشكل إبان الحرب الروسية الأوكرانية في ظل أزمة اقتصادية خانقة يعرفها العالم اليوم، صراعات تغذت من الوضعية القائمة و الاشكاليات السياسية بين بلدان شمال افريقيا و التصدعات الحالية داخل بعض هاته الدول. إنها حرب مواقع سيلعب فيها الأمن الطاقي و الغذائي و المائي دورا محوريا في المستقبل القريب.

إن ماوقع اليوم من استقبال كيان وهمي من طرف رئيس الجمهورية التونسية، ما هو إلا تنفيدا لأجندة جزائرية في سلسلة من المناورات التي تقوم بها بهدف ضرب المغرب في قضية وحدته الترابية و الوطنية و أيضا محاولة خلق معسكرات جديدة تحاول فيها الجزائر أن تلعبا دورا في المنطقة بعدما عزلت نفسها دوليا و بذلك تحاول أن تنافس المغرب في ريادة مجموعة من الملفات القارية.

الجزائر استفادت من الوضع الحالي عقب الأزمة الروسية الأوكرانية التي أثرت سلبا على اقتصادات العالم و باتت تلعب بورقة الغاز و تنهج سياسة الريع المالي لتؤثر على دول مثل تونس التي على مشارف الافلاس و تعتمد على الجزائر أمنيا لحماية حدودها.

الرئيس قيس سعيد استغل هاته الظرفية ليظفي غطاءا سياسيا على قراراته التي انقلبت على الدستور و المؤسسات و يحاول بذلك ربح الوقت من خلال كسبه بعض التأييد عبر جلب أموال الجزائر للحد من العجز المالي اللتي تعرفه الدولة و مواصلة تأدية أجور الموظفين تجنبا لإعلان افلاس الدولة كما حصل في لبنان.

تونس التي لم تعترف يوما بجبهة البوليساريو، بهذا القرار خرجت عن ثوابتها الدبلوماسية، اذا لم يستقبل أي رئيس تونسي سابق في أي مناسبة زعيم البوليساريو، لا في عهد الحبيب بورقيبة و لا زين العابدين بن علي و لا منصف المرزوقي و لا الباجي قايد السبسي.

المغرب ظل ملتزما بحياده ازاء أزمة تونس مع رئيسها و في مختلف المحطات التي شهدتها تونس في العقد الأخير منذ اندلاع الربيع العربي و ظل على حياده حتى عندما امتنعت تونس في أكتوبر 2021، عن التصويت على قرار مجلس الأمن 2602 حول قضية الصحراء و هذا يمثل منعرجا غير مسبوق في الدبلوماسية التونسية التي لا طالما آمنت بوحدة الشعوب المغاربية و حافظت على علاقات الإخاء و حسن الجوار مع المغرب.

تونس في عهد قيس سعيد أرسلت العديد من الإشارات غير الايجابية اتجاه المغرب منها عدم استقبال سفير المغرب إلا بعد مرور مدة تجاوزت الأعراف الدبلوماسية، كما أنها أوقفت معظم أشكال التعاون مع المغرب الذي كان دائما بجانب تونس منذ عهد المغفور له الحسن الثاني.
نستحضر زيارة جلالة الملك محمد السادس لتونس وتجوله بدون بروتوكول في شوارعها دعما لسياحتها بعدما ضربها الإرهاب، دون أن ننسى المساعدة اللتي قدمها المغرب لتونس من خلال تجهيز مستشفى ميداني لتدبير أزمة جائحة كورونا و غيرها من المبادرات اللتي تترجم علاقة الإخاء و الصداقة التاريخية بين البلدين الشقيقين.

موقف قيس سعيد هو محاولة لتصدير الأزمة الداخلية التي يعيشها النظام التونسي منذ حل البرلمان، عبر إقحام تونس في صراع خارجي لا يمثل كل التونسيون و هذا ما عبرت عنه مختلف الفعاليات و القيادات التونسية التي اعتبرت أن قيس سعيد انحرف عن هذه ثوابت الدبلوماسية الخارجية التونسية وبذلك أدخل تونس في منعرجات قد تسبب في عداوات مجانية مع أصدقاء تونس وشركائها التاريخيين و يعرض مصالح تونس للخطر.
ينضاف إلى هذا المعسكر الجديد اثيوبيا. إذ حلّ رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد، يوم 29 غشت 2022، في الجزائر، في زيارة “رسمية” مفاجئة تأتي في سياق تقارب لافت بين البلدين في الفترة الأخيرة، خاصة في مسائل التنسيق المتعلقة بالقارة الأفريقية. و تعتبر هذه الزيارة الثانية لمسؤول إثيوبي رفيع إلى الجزائر في أقل من شهرين بعد زيارة الرئيسة الإثيوبية، ساهل وورك زودي.

لا يمكننا فصل توقيت الزيارة عن تجدد أزمة سد النهضة بين إثيوبيا و مصر. وكانت الجزائر في الأشهر الماضية، تحاول لعب دور الوساطة في الملف و تقريب وجهات النظر بين إثيوبيا من جهة ومصر والسودان من جهة أخرى.

الجزائر حاولت استمالة مصر خلال زيارة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون لمصر و عبر مختلف الزيارات الأخيرة للثأثير عليها لقبول الأجندة الجزائرية المزمع فرضها خلال القمة العربية المقبلة التي يمكن أن تؤجل او تلغى. أيضا من بين الملفات التي تحاول أن تلعب فيها دور الوساطة الى جانب سد النهضة هو الملف الليبي. جاء هذا بعد الدور الهام الذي لعبه المغرب في الملف الليبي بشهادة الليبيين أنفسهم و المنتظم الدولي، و أيضا بعد ما قام المغرب بمساندة مصر في قضيتها حول سد النهضة.

على المستوى الافريقي انضمت الجزائر إلى مجموعة “جي 4″، التي تضم الجزائر وإثيوبيا وجنوب أفريقيا ونيجيريا، والتي أعلن عنها على هامش قمة الاتحاد الأوربي والاتحاد الأفريقي ببروكسل. و هذه التشكيلة ليست بالبريئة خصوصا أن هاته الدول تعترف بجبهة البوليساريو. جنوب افريقيا من أشرس حلفاء الجزائر ضد المغرب في القارة الافريقية و لها وزن سياسي و اقتصادي كونها المستثمر الأول في افريقيا، اثيوبيا تحتظن مقر الاتحاد الافريقي و لها كلمتها في الساحة الافريقية، أما نجيريا التي تعتبر اقوى دولة في غرب افريقيا لا تساند رسميا المغرب في القضية الوطنية لكنها غيرت موقفها من الشراكة مع المغرب تدريجيا و خصوصا بعد مشروع أنبوب الغاز المغرب نجيريا و التي تحاول الجزائر أن تعيقه.

طبعا هاته التكتلات تحاول أن تخلق مجموعات داخل مجموعات مما سيعيق عمل الاتحاد الافريقي الذي كان دائما يدافع عن الوحدة الافريقية. جاء هذا في التوقيت الذي يعرف الاتحاد الافريقي إعادة الهيكلة و هناك مخاوف من تعديل ميثاق الاتحاد الافريقي للسماح بالتصويت على بند طرد عضو من الاتحاد و بذلك امكانية فقدان الجزائر لورقة البوليساريو التي تضغط بها على المغرب.

إذن هذه صراعات جيوسياسية و اقتصادية خصوصا بعد التقارب المغربي الأمريكي و الاسرائيلي. و لا ننسى الزيارة الأخيرة لماكرون و محاولة فرنسا إعادة ترتيب أوراقها لاسترجاع ريادتها في شمال افريقيا من خلال تحريكها لعدة اوراق ضغط بدئا من رفض الفيزا الى ضغوطات أخرى بعدما تضررت مصالحها السياسية و الاقتصادية في شمال افريقيا.

اليوم المغرب بات واضحا مع جل الدول ازاء قضية الصحراء المغربية خصوصا أن الخطاب الأخير لجلالة الملك محمد السادس بمناسبة الذكرى الـ 69 لثورة الملك والشعب في شأن علاقاته مع الدول، شدد على أن “قضية الصحراء هي المعيار الواضح والبسيط الذي يقيس به صدق الصداقات ونجاعة الشراكات”.

في اعتقادي أن ما أقدمت عليه الرئاسة التونسية هو سقطة ديبلوماسية مع جار شقيق ستقلل من فرص تعاون اقتصادي مثين بين البلدين. موقف تونس لا يؤثر في القضية الوطنية لأنها تعالج داخل مجلس الأمن للأمم المتحدة و لا يعد هذا إلا بروباغندا جزائرية اعتادت عليها خلال المؤتمرات الدولية لتحاول اضفاء شرعية على كيان وهمي لا تعترف به معظم الدول الأعضاء بالأمم المتحدة بما فيها تونس.

*كريمة غانم رئيسة المركز الدولي للدبلوماسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News