صحة

مرض “SAHOS”.. قاتل المغاربة الصامت المطرود من رحمة “الحماية الاجتماعية”

مرض “SAHOS”.. قاتل المغاربة الصامت المطرود من رحمة “الحماية الاجتماعية”

لم تكن أزمة مستشفى الحسن الثاني بأكادير سوى القطرة التي أفاضت كأساً طافحاً بالمآسي، قطرة في بحر القطاع الصحي المختل بالمغرب. ولعل من الأمثلة الفاضحة على ذلك عجز المنظومة الصحية عن التكفل بأمراض تكاد تكون مجهولة، “قتلة صامتون” لا يكشفون عن هوياتهم بسهولة، أمراض تتطلب كفاءة طبية استثنائية، ومبادرة من المريض نفسه بعد سنوات من المعاناة من أعراض غامضة، قد تودي بحياته، بل بحياة غيره، قبل أن ينتبه إليها. وحتى حين يتم الكشف عنها، يجد المريض نفسه في مواجهة مصيره، ففرائص صناديق الحماية الاجتماعية ترتعد لمجرد سماع أسمائها، وترفض تقديم أي دعم للمُصاب.

يتعلق الأمر مثلاً، بمرض انقطاع التنفس أثناء النوم، أو كما يُعرف علميا بمسمى syndrome d’apnées–hypopnées obstructives du sommeil (SAHOS). قاتل صامت وبطيء، يُدمّر نوم المريض فيُدمر حياته، ويحوله إلى “زومبي” يسير في الطرقات نصفَ ميت، يستجدي كِسرة نوم ويتسول شهقة أكسجين.

داخل قاعة انتظار أحد “مراكز النوم” بمدينة الدار البيضاء؛ وهي عبارة عن عيادات خاصة مجهزة بآليات جد متطورة، تجلس “وفاء” مُنتظرة دورها للقاء الدكتور، حاملة بين يديها ملفاً طبيا ثقيلاً؛ يتعلق الأمر بتقرير نومها خلال الشهور الثلاثة الماضية، الذي تم تسجيله على جهاز يُسمى (CPAP)، عبارة عن صندوق صغير أسود يخترقه أنبوب وينتهي إلى قناع تضعه وفاء على وجهها قبل ربط الجهاز بالكهرباء والخلود إلى النوم.

ولدى سؤالها عن السبب قالت؛ “أعاني من داء توقف التنفس أثناء النوم، مرض خطير يُسببه ارتخاء العضلات العُلوية على مستوى الوجه أو الحنجرة أو العنق خلال النوم… مما يُعرقل تدفق الهواء إلى رئتي ويسبب لي الاختناق”.

ولأن الدماغ البشري على أهبة الاستعداد دوماً، فإن حدوث ما سلف أثناء النوم يدفعه للاستيقاظ على الفور حتى يُمكن صاحبه من استنشاق بعض الهواء وعدم الموت اختناقاً. غير أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، يوضح الطبيب المعالج؛ “يكون الاستيقاظ من النوم عبارة عن Micro Eveil أي أنه لا يدوم سوى ثوان معدودات، عادة لا يشعر به المريض حتى. وبمجرد عودته إلى النوم ترتخي عضلاته مرة أخرى فيستيقظ مجدداً، وهكذا دواليك طوال الليل، مما يؤدي إلى ضحالة في النوم، وعدم الاستغراق في النوم العميق الذي يمنح الراحة ويعيد شحن البطاريات”.

حين تستيقظ وفاء صباحاً لا تعلم شيئا عما جرى خلال الليل، كل ما في الأمر أنها تشعر بتعب شديد، “كأني لم أكن نائمة بل كنت أقوم بأشغال شاقة”، لكنها كانت تعتقد أن ذلك راجع لضغوط حياتها العصبية. ثم تبدأ يومها دون حيوية ولا نشاط يذكر. ترتدي ثيابها وتستقل سيارتها متجهة إلى مقر العمل، وبينما هي على المِقود تحدث الكارثة؛ تروي وفاء: “لا أذكر ما حدث بالضبط، كنتُ أقود سيارتي فغفوتُ لوهلة قصيرة خلال التوقف بإشارة المرور الحمراء، وحين فتحت عيني وجدتُ نفسي بطلة حادثة سير مأساوية”.

الطبيب المعالج يؤكد أنّ عدم استغراق وفاء في النوم العميق إثر تكرر استيقاظها ليلاً بسبب الاختناق، جعلها مرهقة وبحاجة ماسة للنوم، فصار دماغها يتحين أي فرصة ليغفو، قد يحدث ذلك أثناء العمل، أو أثناء مشاهدة التلفاز… ولكن الأخطر أنه يحدث كثيراً أثناء قيادة السيارة مما يؤدي لحوادث سير مميتة، وهنا خطورة هذا المرض”.

لحسن حظ وفاء أنها تجيد التعامل مع شبكة الإنترنت، فبعد حادث السير الذي كاد يودي بحياتها أخذت تبحث على الشبكة، خصوصاً وأنها محظوظة أيضاً بالعيش مع زوجها الذي نبهها لكونها تشخر على نحوٍ غريب أثناء نومها، ما ساهم في تنامي شكوكها بشأن هذا المرض وتوجهها إلى “مركز النوم”، بمدينة الدار البيضاء.

هذه التفاصيل العشوائية التي ساعدت وفاء لا يتمتع بها عبد الحميد؛ مريض آخر يُقيم وحيداً وليست لديه سيارة، كما أن أعراضه جاءت مختلفة تماماً؛ “كنتُ أستيقظ أكثر من 10 مرات خلال الليلة الوحيدة، وأنا واعٍ بذلك تماماً، طيلة أسابيع وأنا أعاني من نومٍ مضطرب ومتقطع، ظننتُ أني أعاني من الأرق (Insomnie) فتوجهت إلى طبيب نفسي، بدوره لم يتمكن من تشخيصي على النحو المطلوب، وظن أني أعاني من الاكتئاب، فوصف لي مضاد اكتئاب ومضاد قلق وحبوباً منومة”.

وبالطبع، فسوء التشخيص الذي يعد من مثالب داء توقف التنفس أثناء النوم، يؤدي بالضرورة لسوء العلاج؛ “كِدتُ أجن، كيف يعقل أني أتناول حبوباً مخدرة قوية لا تعطى بالصيدليات إلا تحت وصفة طبية، ومع ذلك لا أنام ملء جفوني؟” يقول قبل أن يستطرد؛ “كان الطبيب النفسي يكتفي، في كل مرة أشتكي له بعدم تحسن حالتي، بالقول إن وضعيتي النفسية مزرية، فيزيدني جرعات من مضادات الاكتئاب أو يغيرها، أو يزيد جرعة المنومات… ويطلب مني “الترويح عن نفسي وعدم الاستسلام للضغوط… بلا جدوى”.

ساعد البحث على شبكة الانترنت كلاً من وفاء وعبد الحميد على الشك في داء الاختناق أثناء النوم، حينها فقط بدأت معركتهما الحقيقية، والسؤال الآن: إلى أي طبيب أخصائي يتوجهان؟ هنا أيضاً الغموض نتيجة تداخل تخصصات عديدة، فمشكلة الاختناق متعلقة بالقفص الصدري، لكنها بذات القدر متصلة بعضلات العنق أو الحنجرة أو الأنف… فمن الأخصائي المناسب؟ طبيب أمراض صدرية أم أخصائي في الأذن والأنف والحنجرة؟

استقر رأي كليهما بعد بحث عبر الشبكة على “مركز لطب النوم”، وهو تخصص لا يزال نادراً بحيث يتطلب تكويناً طبياً متعدد التخصصات في كل أنماط الطب التي تتدخل في النوم وأمراضه، ما يجعل عدد الأطباء الممارسين له بالدار البيضاء معدوداً على رؤوس الأصابع.

يتم التشخيص عبر تقنية تسمى “POLYSOMNOGRAPHIE”؛ عبارة عن “ليلة رعب” حقيقية، إذ يُطلب من المريض النوم بالمركز الصحي، ويتم ربطه بشتى أنواع وأشكال وألوان الأسلاك الكهربائية والتجهيزات الطبية؛ “نِمتُ موصولا بالأسلاك كأني جهاز ويفي (Wifi)” يقول عبد الحميد ساخراً. تجري “البوليسومنوغرافيا” دراسة خلال الليلة إياها على كل مؤشرات النوم عند المريض؛ مؤشرات الكهرباء الدماغية، والتنفسية وحتى الدموية… لتخلص إلى تقرير يتطلب أسبوعاً على الأقل قبل أن يطرح الطبيب تأويلهُ ويجيب عما إذا كان المريض مصابا بانقطاع التنفس أثناء النوم أو غير ذلك.

ظهرت النتائج. تُعاني وفاء من اختناق تنفسي نومي “متوسط”، حيث تستيقظ نحو 10 مرات في الساعة الواحدة ليلاً، وبناء على ذلك، وصف لها الطبيب جهازاً فموياً يسمى “Orthèse d’Avancée Mandibulaire”، سيكون عليها تركيبه داخل فمها قبل النوم، فيقوم بزحزحة فكيها نحو الأمام لمنح الهواء مجالاً للتدفق نحو رئتيها وبالتالي وضع حد للمشكلة.

لا تعرف وفاء كم هي محظوظة مقارنة بعبد الحميد، الذي كشف التقرير الطبي عن كونه يعاني من اختناق تنفسي “حاد” لا يمكن حله بالأداة الفموية، بحيث يستيقظ أكثر من 30 مرة في الساعة الواحدة. وسيكون عليه أن يخضع، إلى آخر يوم من حياته، لعلاج يسمى CPAP، وهو عبارة عن أداة بحجم صندوق، مرتبطة بأنبوب هواء وقناع، فموي أو أنفي، ومتصلة بالكهرباء، تقوم بزيادة قوة دفع الهواء حتى يخترق الحاجز الذي يحول بينه وبين رئتي عبد الحميد.. وكان الله في عونه إذا انقطعت الكهرباء ليلاً!

“كلفتني ليلة البوليسومنوغرافيا 3000 درهم، وبعدما وصف لي الدكتور جهاز CPAP استفسرتُ عن ثمنه فكان الرد صادماً، حوالي 15.000 درهم، دون احتساب القناع والأنبوب اللذين يكلفان 1500 درهم، وسيكون عليّ استبدالهما كل سنة أو سنتين”.

الخبر الإيجابي نسبياً، هو أنه علماً منها بصعوبة تحمل هذه التكاليف دفعة واحدة، وفرت الشركات الصحية إمكانية “اكتراء” الجهاز مقابل 800 درهم شهرياً، مبلغ ليس بالهين بدوره، لكن الأسوء لم يأتِ بعد.

حين حاول عبد الحميد الإدلاء بملفه الطبي لصندوق الضمان الاجتماعي الذي يتبع له، فوجئ برد قاسِ؛ “نأسف على ذلك، لكن مرضكم وعلاجاته غير مُدرجة في قائمة الأمراض التي تستفيد من التعويض”.

بسخرية غير قانطة من رحمة الله يقول عبد الحميد؛ “في رمشة عين انقلبت حياتي رأساً على عقب، فقدتُ صحتي وأصبحتُ أعمل لا لأطور عيشي، بل بالكاد لتوفير تكاليف علاجي الثقيلة… ولأدفع مساهمتي في التأمين الإجباري عن المرض الذي لا أستفيد منه”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News