سياسيو المونديال!

عادة ما يتصف القادة السياسيون بالقدرة على حشد جهود الشعب وقدراته وتوجيهها نحو تحقيق أهداف نبيلة وبناءة، أهداف تُخرج من الشعب أجمل ما فيه، وتحفّز طاقاته الإبداعية، وتزرع فيه روح التضحية، وذلك ما حدث مع قادة الحركة الوطنية الذين وجّهوا الرأي العام إلى مناهضة الاستعمار وتحقيق الاستقلال، فكانت غاية عظيمة بالنسبة للشعب المغربي الذي بذل الغالي والرخيص في تحقيقها، ثم بعد ذلك وجّه الملك محمد الخامس رحمه الله الشعب المغربي بعد الاستقلال إلى بناء الدولة وتنظيم المؤسسات قائلا: «لقد خرجنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر»، وتنافس بعد ذلك بعض السياسيون في النضال من أجل ترسيخ حقوق الإنسان في المغرب، وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
في عالم اليوم، إذا ما التفتنا نحو أقصى الشرق، نجد الصين تسعى إلى حشد مهارات الشعب لبناء قوة اقتصادية تفرض احترامها في العالم، وتنعكس إيجابا على حياة الناس، وإذا ولّينا أنظارنا صوب أقصى الغرب نجد الرئيس الأمريكي ترامب يردد في كل ساعة دعونا نصنع أمريكا عظيمة، مبشرا بتعزيز مكانة دولته في العالم، ولم يجعل مناسبة تنظيم مسابقة رياضية محركا لبرنامجه الانتخابي، بل إنه يكاد لا يذكر كأس العالم حتى بعد دخوله إلى البيت الأبيض، وإن كانت دولته ستستضيف هذه المناسبة الرياضية في السنة المقبلة (2026)!
وعلى إيقاع أغنية “أجيو تشوفو..” -التي يتندر بها مغاربة مواقع التواصل في مواضع المقارنة بين المغرب والعالم- نعود إلى واقع المغرب السياسي الذي يعيش حالة فراغ من حيث التصور، إذ لا يشغل سياسيينا غير مونديال 2030، وكأن أحلام هذا الوطن ومجده يقوم على مسابقة ستستمر أقل من شهرين، ففي الوقت التي تضع الدول خططا استراتيجية للنهوض والتنمية وتضع لها تاريخا محددا، يسوّق الفشل السياسي في المغرب مسابقة كرة مملوءة بالهواء كمشروع مجتمعي تاريخي للمغاربة.
إن مقاربة هذه الظاهرة السياسية ربما تستدعي مقاربة نفسية هؤلاء السياسيين، حيث يتعذر تفسير هذه الكوميديا غير المضحكة -كبرنامج “ستناد اب” الذي يذاع على الأولى- إلا بما يشبه مرض نفسي يدعى “اضطراب الشَخصِيَّة التَمثيلِيَّ أو الهستيري” وهو مرض يجعل الأشخاص في حالة حاجة مستمرة إلى أن يكونوا مركز الاهتمام، وغالبًا ما ينشغلون بالاعتناء بمظهرهم بسبب رغبتهم في إثارة إعجاب الآخرين بإطلالتهم التي ليس من الضرورة أن تكون انعكاسا لمستواهم المادي أو الاجتماعي أو الثقافي. وكذلك هم بعض المسؤولين السياسيين الذين يريدون سرقة أضواء العالم في ظلّ ظلمة الفساد المُستشري في كلّ القطاعات.
حتى إن كان تنظيم هذه المسابقة الرياضية ضرورة، ومحطة مهمّة، ورهان دعائي، فهذا لا يبرّر بأي منطق وحال تحويله إلى مشروع مجتمعي، وبرنامج سياسي، في تجاهل بليد للواقع المغربي، ولتراث هذه الأمة وتطلعاتها، فالمغرب والمغاربة أكبر من أن يختزل مشروعهم الوطني وتسخّر إمكاناتهم الهائلة في تنظيم مسابقة رياضية عابرة.
إن المغاربة يعشقون الفرحة والمسرّات كأي شعب، ويستحقون عيش أجواء مونديالية سارّة، تتناسب وبساطتهم، تتساوق مع هويتهم، لا أن تكون هذه المسابقة الرياضية لحظة من لحظات تعميق الهوة الطبقية التي ما زالت تتسع عقدا بعد عقد، فتكون التذاكر في متناول يد الأغنياء، فيما لا يستطيع المسحوقين أداء ثمن كأس شاي في مقهى لا يراقب أسعاره أحد، فلتكن هذه الفعالية فرصة لتمثّل القيم المغربية الحقيقية، في ولعها بالذات، وفخرها بالتراث، في تضامنها الراقي وكرمها الباقي..، لا أن تحوّل إلى لحظة صراع تكشف للخارج حجم الضغط على الطبقات الكادحة بعد أن صار مكشوفا لكل الداخل، لا أن يحوّل عامة المغاربة إلى ديكور وفولكلور يؤثث المشهد ويزيّنه لساسة يركبون سفينة الأضواء ويعومون بها فوق أحلام غرقى المتوسط وسواحل الصحراء.
وفي كلّ الأحوال لن يكون المونديال بالنسبة للمغاربة أفضل من لحظة إطلاق الزفزافي ورفاقه، وإقامة مصالحة وطنية مع المناطق المنكوبة من الريف إلى الفنيدق وجرادة، ولا أحسن من إعلان المغرب وقف اتساع الهوة بين طبقة الأغنياء والفقراء بإجراءات تنموية وقانونية عاجلة، كما أعتقد بأن المغاربة أحوج إلى تمويل استراتيجية لمحو الأمية التكنولوجية في المغرب من بناء ملاعب المونديال.
رؤية الموضوع من هذه الزاوية تظهر كيف من المخجل تداول مصطلحات من قبيل “حكومة المونديال” و “برنامج المونديال”، فالسياسي صاحب المشروع يوجه الشعب نحو إنجازات حضارية معتبرة، خادمة للشعب ومفيدة للإنسانية، أما السياسي المحدود في تفكيره والمختل في معياره القيمي، فلا ينتظر منه إلا بيع الوهم للناخبين مقابل استغلالهم واستغلال الوطن في إعلاء مكانته، حتى يفتخر بالعدم.