رأي

المسكرات تفقد “حكومة الدولة الاجتماعية” صوابها

المسكرات تفقد “حكومة الدولة الاجتماعية” صوابها

لقبت الحكومة الحالية نفسها “حكومة الدولة الاجتماعية” مند يومها الأول، ويقتضي الانتساب إلى تلك الدولة الاجتماعية أن تكون المقاربات التي تحكم سياسات الحكومة مقاربات تستحضر الأثر الاجتماعي لقراراتها وبرامجها واختياراتها كأولوية تشكل بوصلة سياساتها. وتكرس لقب “الدولة الاجتماعية” في المغرب مع اعتماد شبكة من البرامج الضخمة وغير المسبوقة في مجال الحماية والدعم الاجتماعيين. والتي ترجمت سياسة الملك محمد السادس الذي دشن بذلك عهدا جديدا في سياسات الدولة تجاه المجتمع مند سنة 2018، في هذا المجال.

لكن شعار “حكومة الدولة الاجتماعية” يفقد البوصلة خارج منظومة المشاريع الملكية، حيث يصل الأمر بقرارات الحكومة وأغلبيتها البرلمانية أحيانا حد العربدة ضد مقتضيات “الدولة الاجتماعية”. ونكون أمام قرارات صادمة لا تفتقر فقط للبعد الاجتماعي بل من شأنها مفاقمة الكثير من المظاهر الاجتماعية السلبية والخطيرة التي تهدد التماسك الاجتماعي.

وآخر شيء تم تسجيله في هذه السياسات اللااجتماعية بمناسبة مدارسة مشروع قانون المالية لسنة 2024، موافقة الحكومة على تعديل تقدمت به أغلبيتها بلجنة المالية والتخطيط والتنمية الاقتصادية في مجلس المستشارين، يقضي بتخفيض الضريبة الداخلية على استهلاك المشروبات الكحولية بشكل غير مسبوق.

ويتعلق الأمر بتخفيضات كبيرة جدا، حيث تم تحديد سعر ضريبة هيكتولتر من الجعة (البيرة) في 1550 درهم بدلا من 2000 درهم، أي بتخفيض يناهز 22.5%، كما تم خفض سعر الخمور إلى 1150 درهم للهيكتولتر عوض 1500 درهم، أي بتخفيض بأزيد من 23%. أما المواد التي تحضر بها أو تحتوي عليها مياه الحياة والمشروبات الروحية وفاتحات الشهية والفرموت والفواكه المصبرة بالكحول والخمور العذبة وعصير العنب الممزوج بالكحول والحلويات المحتوية على الكحول والمشروبات الروحية الأخرى، فتم تخفيض سعرها إلى 25 ألفا و500 درهم بدلا من 30 ألف درهم أي بتخفيض يساوي 15%.

هذه التخفيضات السخية في ضرائب المواد الكحولية أو المحتوية على المواد الكحولية، ستكون لها تداعيات اجتماعية خطيرة، حيث أنها سوف تساهم في الرفع من حجم استهلاك المواد الكحولية أو المحتوية على الكحول بشكل كبير. فما موقع “حكومة الدولة الاجتماعية” من الاعراب في هذه التخفيضات السخية للضريبة على الكحول، في الوقت الذي ينتظر فيه المغاربة إجراءات ملموسة لخفض أو الحد من ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية المختلفة، وعلى رأسها المواد الغذائية؟

المقترحون للتعديل من أغلبية “حكومة الدولة الاجتماعية” كانوا واضحين، ففي مرافعاتهم أكدوا أن ” أسعار المنتجات المكونة للخمر عرفت زيادة متتالية في السنوات العشرة الأخيرة، مما انعكس على مالية الشركات العاملة في هذا القطاع”، ولذلك “وجب التقليص من أثمنتها لتشجيع المستهلكين على اقتنائها وعدم لجوئهم إلى الماحيا خوفا من تداعيات سلبية على صحتهم”!

فتبرير الأغلبية الحكومية يمثل فضيحة قياسية. فهو واضح في كونه يحقق رغبة لوبيات صناعة وترويج الخمور والمواد الكحولية في المغرب، ويحاول تعويض تلك اللوبيات عن السياسات الحكومية السابقة التي كانت ترفع ضرائب تلك المواد. لكنه في نفس الوقت يحاول ذر الرماد في أعين المغاربة بمحاولة ربط تشجيعهم على استهلاك الخمور بالحماية من شرب “الماحيا” لما تمثله من أضرار على صحتهم! وكأن استهلاك الكحول المصنعة بشكل قانوني ليس له أضرار صحية.

وتعلم الحكومة وأغلبيتها أن صناعة الماحيا وترويجها، والتي ترجع مسؤولية محاربتها للحكومة، لن تفيد معه سياسة تخفيض ضرائب الخمور والمشروبات الكحولية، ذلك أن لها زبناءها المتعلقين بها حتى وسط المدن الكبرى حيث تباع الخمور بشكل عادي، ويتم ترويجها في مناطق لا تصلها الخمور المصنعة إلا عبر شبكات فساد سرية، اللهم إلا إذا كان في استراتيجية الحكومية تعميم نقط بيع “الخمور القانونية” على القرى وهوامش المدن بأسعار تفضيلية حتى تتمكن من محاصرة “الماحيا” والرفع من رقم معاملات الشركات المصنعة للخمور وغيرها من الكحوليات!

لكن لا ينبغي أن نقع في فخ البقاء في المربع الذي رسمته الحكومة وأغلبيتها في مناقشة هذه النازلة، ذلك أن الضريبة الاجتماعية للخمور والمشروبات الكحولية، لا يمكن موازنتها مطلقا بالعائد المالي لتخفيض ضرائب الخمور وباقي المشروبات والمواد الكحولية على الشركات.

فكما هو معلوم، يعد السكر العامل الرئيسي خلف حوادث السير بالمغرب، والتي تخلف حربها في المعدل وكل يوم أزيد من 10 قتلى و356 جريح. كما تعبر حوادث السير المصدر الأول للإعاقة البدنية بالمغرب. وحرب الطرقات تعتبر مصدر الكثير من الأزمات الاجتماعية سواء على مستوى الأسر التي تفقد عائلها أو يصبح في حالة عجز بدني، أو التي يصبح لديها شخص في وضعية إعاقة يحتاج إلى رعاية قد تدوم طول عمره.

حصيلة حوادث السير وحدها كافية لدحض حجج الحكومة وأغلبيتها في الانحياز إلى شركات صناعة المواد والمشروبات الكحولية. لكن الضريبة الاجتماعية للخمور ومثيلاتها لا تنحصر في حرب الطريق، بل نجدها أيضا في ضرب الاستقرار الأسري، حيث يرتبط العنف الأسري، الموجه ضد المرأة بشكل خاص، باستهلاك الخمور. كما نجد هذا العامل حاضرا بقوة ضمن العوامل المؤدية للطلاق. أما على مستوى الإدمان على الكحول وما يترتب عنه من مشاكل صحية واجتماعية فمجال آخر من المجالات التي ينزف فيها المجتمع دما لتسقى ضيعات صناع الخمور وما يماثلها بعائدها المالي. ولا يمكن أيضا الحديث عن استهلاك الكحوليات دون الحديث عن الجرائم المرتبطة بها، فوسط نزلاء السجون نسبة معتبرة هم ضحايا السكر، سواء العلني أو المسبب لهم في شجارات قد يخلف بعضها إعاقات في الضحايا أو حتى قتلهم…

لا شك أن المقاربة الاجتماعية تفرض النظر إلى الضريبة الاجتماعية للخمور وباقي المسكرات، وليس إلى عائدها المالي على الشركات وعلى مديرية الضرائب. وما سبق يؤكد أن الحكومة وأغلبيتها ليس بينهم وبين “الدولة الاجتماعية” إلا “الخير والإحسان” كما يقول المغاربة.

ومن المفارقات العجيبة، والتي تؤكد أننا لسنا أمام “حكومة الدولة الاجتماعية”، بل أمام حكومة رأسمالية، هو أنه في الوقت الذي قبلت فيه الحكومة التعديلات المتعلقة بخفض ضريبة الخمور بشكل سخي غير مسبوق، نجدها ترفض جملة من التعديلات ذات البعد الاجتماعي الحقيقي، من بينها الحذف التدريج لتطبيق سعر 10 بالمائة على عمليات البيع والتسليم المتعلقة بالماء الموجه لشبكات التوزيع العمومي، وكذا خدمات التطهير المقدمة من طرف الهيئات المكلفة بالتطهير وعمليات إيجار عداد الماء غير تلك المعفاة، كما تم رفض تعديل تقدم به فريق الاتحاد المغربي للشغل يطلب من خلاله إقرار ضريبة على الثروة الشخصية، بهدف إشراك أصحاب الثروات الكبيرة والضخمة، في تحمل نفقات بناء الدولة والمجتمع التضامني الديمقراطي الاجتماعي.

إنه في مثل هذه المحطات الفاصلة ينبغي البحث عن معالم وحقيقة “حكومة الدولة الاجتماعية”. لكن لا ينبغي أن نبخس الحكومة “حقها”، فنحن على مشارف سنة ميلادية جديدة، و “راس العام” هو أكبر محطة لاستهلاك الخمور في المغرب، وتلك التخفيضات الضريبية السخية، والتي لا شك ستخفض من الأسعار أيضا، قد تكون هدية الحكومة للمغاربة في رأس السنة الجديدة 2024. أدخلها الله على وطننا العزيز بالرخاء والأمن وبمزيد من الاستقرار، وعلى الحكومة بفاتحة رشد ونفحة “روحية” تلين قلبها ليكون أكثر “اجتماعية”.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News