بورتريه

مليكة الفاسي.. مناضلة ضد المستعمر كرّست حياتها لقضايا المرأة

مليكة الفاسي.. مناضلة ضد المستعمر كرّست حياتها لقضايا المرأة

كانت مقاومة الاستعمار الفرنسي على أشدها بين المقاتلين والسياسيين والفدائيين من جهة، وبين السلطات الفرنسية من جهة أخرى، وفي طليعة هذا الصراع أو المقاومة، كانت المرأة المغربية حاضرة، ومقاومة، ورافعة شعار التحدي للمطالبة بالاستقلال في شخص المقاومة، والتوقيع على وثيقة المطالبة بالاستقلال في شخص مليكة الفاسي، بجانب ثلة من المغاربة الوطنيين، مما يوحي بالدور الرائد للمرأة المغربية في حركة التحرر والخلاص من الاستعمار الفرنسي، سعيا لنيل الحرية، فكانت رسالة المرأة النضالية رديفا لدور المجاهدين والمقاومين في ذلك الوقت.

لم تكن مليكة الفاسي اسما نسائيا بارزا آنذاك استثناء في المغرب، بل كانت محصلة عوامل ثقافية، وفكرية، نالت فيها المرأة حظا من البروز والظهور في تلك الفترة، مما هيأ لها ولوج عالم السياسة، والوطنية من أوسع أبوابها.

سلاح العلم

تنحدر مليكة الفاسي، كما يوحي اسمها، من العاصمة العلمية فاس، ولدت يوم 19 يونيو 1919، وكانت الابنة الوحيدة لأسرة تتكون من ثلاثة أبناء، كما نشأت في وسط مثقف يحمل همَّ القضية الوطنية. والدها كان من أكثر المناوئين للاستعمار وهو القاضي، المهدي الفاسي، إذ زرع في نفوس أبنائه روح الوطنية، والإيمان بعقيدة النضال ضد المحتل الفرنسي، ومجابهته بسلاح التربية والعلم.

حرص المهدي الفاسي على تعليم ابنته الوحيدة إسوة بولديه، فتتلمذت في دار الفقيهة، إلى أن حول والدها جناحا من البيت إلى مدرسة، وجلب أساتذة أكفاء من القرويين لتعليمها مختلف العلوم والفنون.

تشكّل وعي مليكة في سن مبكّر، بتحفيز من عائلتها التي هيأت لها كل صنوف المعرفة، ابتداء بتعلم اللغة الفرنسية “لغة المحتل”، وانتهاء بتعلم الآلات الموسيقية، وكأنها رسالة توحي بأن الفاسي جمعت بين الكفاح بالفكر والثقافة والفن، الذي اتخذت منه منبرا آخر للتغني بقيم المغرب وأمجاده، فالفكر والفن في خدمة الوطن.

ونتيجة لهذا التفاعل الأسري، بدأت تطرح على نفسها أسئلة تدور حول المرأة ووظيفتها وحريتها ورسالتها في الحياة جنبا إلى الرجل، من منظور وطني تفاعلت معه وهي تسائل نفسها عن غياب المرأة مثلا في صفوف المتعلمين آنذاك في جامعة القرويين التي أسستها أساسا امرأة وهي فاطمة الفهرية، وغيرها من الأسئلة التي ستقودها إلى تبني قضية جديدة لا تقل شأنا عن القضية الوطنية، بل قد تكون مكمّلة لها وهي قضية تحرير المرأة.

الفتاة و”الباحثة الحاضرة”

نذرت مليكة الفاسي حياتها للمساهمة في إنشاء الدولة الحديثة بالمغرب من خلال استماتتها في تحسين وضعية المرأة المغربية من جهة، والمشاركة في مقاومة الاستعمار من جهة أخرى.

وكخطوة أولى في مسيرة النضال لتحرير المرأة، شرعت وهي ابنة الخامسة عشر، في المطالبة بحق المرأة في التعليم، من خلال كتابة أولى مقالاتها في مجلة المغرب عام 1934 موقع باسم مستعار “الفتاة”، وعبر جريدة “العلم” باسم مستعار آخر “الباحثة الحاضرة” وذلك في عام 1943، لتتوالى بعدها سلسلة من المقالات الفكرية التي تعنى بالمرأة وما يدور في فلكها للتأثير على الرأي العام ليبرز اسمها في عالم الصحافة النسائية والتي كانت السباقة فيها.

وكتبت مليكة الفاسي عدة مسرحيات، وقصص قصيرة لتسجل نفسها كذلك من أوائل الأديبات، ومن بينها مسرحية “الضحية” المنشورة في مجلة “الثقافة المغربية” سنة 1941، والتي عرّت من خلالها الزواج التقليدي السالب لإرادة الفتاة في اختيار شريك حياتها، ووضعت الواقع المفروض على الفتاة من قبل الأهل والمجتمع تحت المجهر، وأبرزت نتائجه السلبية.

تزوجت مليكة من ابن عمها محمد الفاسي، هذا الأخير عينه الملك محمد الخامس أستاذا بالمدرسة المولوية بالرباط، وهنا تبدأ همزة الوصل لمختلف أدوارها السياسية، والثقافية، والوطنية.

رمز النضال النسائي الوطني

بالموازاة مع المسؤوليات الجديدة كزوجة وأم، أصبحت مليكة الفاسي منذ عام 1936 أول امرأة تنتمي لأول نواة للحركة الوطنية، وكان بيتها منتدى للاجتماعات السرية للحركة الوطنية، والتي حظيت بكامل ثقتها بعدما أقسمت على كتمان الأسرار الوطنية، لتكون بذلك المرأة الوحيدة التي خصّها الحزب لتلحق بجناحه السري الذي يعتبر قناة تواصل مع الملك محمد الخامس.

وبحكم عمل زوجها، استطاعت “للا مليكة” كما تحب أن يُنادى عليها، أن تقوم بدور وطني هام، في غفلة عن المحتل الذي كان ينظر للمرأة المغربية بعين الازدراء والتحقير، فلم يكن يظن أن امرأة مغربية سينتدبها أعضاء الحركة الوطنية للقاء الملك محمد الخامس وتقصي أخباره، إلى جانب أدوار وطنية أخرى.

وكانت آخر من التقى محمد الخامس قبل نفيه، وتوجهت ليلة 19 غشت 1953 إلى القصر الملكي وهي في هيئة رثة لكيلا تثير انتباه الفرنسيين، وعاهدت الملك على مواصلة الكفاح والمقاومة، وعند عودته كانت من أوائل من استقبله في المطار، فصافحها، وأثنى عليها حفظها للعهد.

بادرت مليكة إلى أن تكاتب المقيم العام الفرنسي وملك البلاد آنذاك محمد الخامس من أجل أن تدعم حق الفتاة المغربية في الوصول إلى الدراسات العليا بجامعة القرويين، ورغم محاربة المستعمر نجحت في مهمتها بإنشاء فرع مخصّص للبنات، إذ ساهمت في تهييئ المجتمع المغربي للتحولات الاجتماعية التي تعيشها البلاد على صعيد تمكين المرأة من الانخراط في شتى مناحي الحياة، فهي على الصعيد الوطني تسعى من أجل تحرير المغرب من الوصاية الفرنسية، وعلى الصعيد الشخصي والاجتماعي تروم إلى تحرير المرأة من الوصاية الاجتماعية المفروضة عليها.

وعند التوقيع على وثيقة المطالبة بالاستقلال في 11 يناير 1944، كانت “للا مليكة” الاسم النسائي الوحيد ضمن قائمة ضمت 65 اسما وطنيا آخرا، وبعد الاستقلال رفضت تسلم أي منصب سياسي يقيد حريتها، وآثرت الدفاع عن حق النساء في التصويت، وطالبت أن يتضمن الدستور مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة، وهو ما تضمنه الفصل الثامن من دستور 1962.

عِرفانا لمسيرتها النضالية الكبيرة، حظيت بتكريم ممنوح من قبل الملك محمد السادس سنة 2005، وتوجت بوسام العرش العلوي من الدرجة الأولى، في الذكرى السنوية الحادية والستين لتقديم عريضة المطالبة بالاستقلال، وبعد سنتين من هذا التكريم، لبت مليكة الفاسي نداء ربها يوم 11 ماي، وَوُورِي جسدها الثرى بضريح الحسن الأول بالرباط، ليبقى اسمها نبراسا ورمزا منقوشا ليس فقط على وثيقة الاستقلال، بل في الذاكرة الإنسانية لتاريخ المغرب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News