حوادث وكوارث

زلزال المغرب.. رحلة بين الأنقاض ونبش في ذكريات حياة طمسها الركام إلى الأبد

زلزال المغرب.. رحلة بين الأنقاض ونبش في ذكريات حياة طمسها الركام إلى الأبد

أسرة فقدت مأواها، صارت بدون سقف ولا جدران دافئة، منزلها اختفت معالمه، لم يتبق منه إلا جزء يسير. بقايا غرفة متهالكة تتوسطها طاولة خشبية مهترئة فوقها تلفاز صغير لم يعد صالحا لنقل الصور، بل أصبح هو الآخر صورة تؤرخ لحجم المأساة وشاهدا على الفاجعة.

لم تكن هذه الأسرة استثناء، ولم يكن هذا المشهد معزولا. كان يتكرر بمعظم الدواوير التي زرناها، حطام وموت ودمار وحاجة وعزلة وفقدٌ وكثير من الألم والكرم.

كانت الرحلة إلى هناك صعبة وكانت القصص التي صادفنا أصعب.

حينما سبق القهرُ الزلزال

حين بلغنا أن الإعانات قد تأخرت عن إقليم شيشاوة (حوالي 50 كيلومترا عن إيغيل بؤرة الزلزال)، وكثُرت نداءات الإغاثة، قررنا أن نتوجه إليها بعدما كنا ننوي التوجه إلى إقليم الحوز. عند وصولنا، وجدنا فعلا أن الإعانات تأخرت عن هذه المنطقة، ليس جراء الزلزال فقط، بل هي متأخرة منذ سنوات طوال. لقد تأخرت كثيرا. وتبين لنا منذ الوهلة الأولى أن قطار التنمية وهذه المناطق كانا يسيران في طريقين متوازيين لم يُكتب لهما أن يلتقيا. وحين وصولنا إلى جماعة الزاوية النحلية التابعة لنفس الإقليم، وجدنا أن القهر قد سبقنا وسبق الزلزال من قبلنا.

في رحلة اختلط علينا فيها الإنساني بالمهني، رافقنا قافلة إنسانية توجهت من فاس نحو جبال الأطلس الكبير، بقلب المناطق المنكوبة، كان الجميع في حافلة كبيرة محملة بالمساعدات يقترح دوارا ما يزال معزولا كانت لم تصله جهود الإغاثة بعد. كنا نحدد إقليما ثم آخر، لم يكن من السهل تحديد المنطقة الأكثر ضررا، فالجميع هناك في العزلة والهم سواء.

في الطريق إلى الخراب.. زمن متوقف

بعد اتصالات مكثفة بأبناء بعض المناطق المنكوبة، كنا قد حددنا مسارنا إلى جبال شيشاوة بعدما كنا في البداية قد حددنا بعض دواوير إقليم الحوز مركز الزلزال، أحد الأصدقاء هناك أخبرنا أن مساعدات كثيفة وصلت إلى المنطقة وأن جماعات قروية معزولة بشيشاوة لم تستفد بعد.

ما إن خرجنا من الطريق السيار القادم من فاس والمار من الرباط والدارالبيضاء، وعند مخرج مدينة بنكرير نحو الحوز، شيشاوة وتارودانت، وحين تقترب أكثر من المناطق التي ضربتها كارثة الجمعة يستشعر المار من هناك كما من الحزن يخيم على الأجواء، طقس متغير، وزمن متوقف.

فالزمن في المناطق المنكوبة يختلف عن الزمن خارجها. ما أصعب الانتظار وما أثقل مرور الثواني على منطقة مدمرة معزولة ينتظر من هم فوق الأنقاض الوصول إلى من هم تحتها، إن لم يكن من أجل إنقاذهم، فمن أجل وداع أخير ودفن كريم.

حللنا بمنطقة مجاطـ في اليوم الثالث من الزلزال، كانت العديد من الشاحنات الكبرى والمتوسطة والسيارات المدنية قد سبقتنا إلى المدينة، الأمر كان أشبه بالإنزال. وكانت عناصر الجيش تتفرق في عدة نقاط، بينما تحاول عناصر الدرك تنظيم حركة السير. أوقفنا دركي طلب منا التوقف بناء على أوامر لديه بعدم السماح  للشاحنات الكبرى بالمرور وأن علينا تفريغها واستكمال الطريق بعربات أصغر.

بحيلة من الحيل، استطعنا أن نتقدم حوالي 30 كيلومترا أخرى قبل أن يتضح لنا أنه سيصعب علينا استكمال الطريق. توقفنا في نقطة معينة لتفريغ المؤونة في شاحنات متوسطة وسيارات صغيرة تسهل علينا الوصول إلى المناطق البعيدة ذات المسالك الوعرة المنحوتة في الجبال.

حين تصل الى دوار بعينه تكتشف أن الأمر يتعلق بدواوير متفرقة ومتباعدة، بعضها يقطنها ثلاث عائلات فقط، لم يعد يجمع بينها إلا الموت والدمار وطريق وعرة قبل أن يزيد الزلزال من وعورتها؛ أحجار كبيرة متساقطة في طريق جبلية تشق الأطلس الكبير ترك الزلزال آثاره عليها. كل التفاصيل تخبرك أن زلزالا مدمرا مر من هنا.

الكرم.. أول الناجين من الزلزال

في رحلتنا التي دامت يومين، استطعنا الوصول إلى عديد الدواوير بينما كانت هناك دواوير أخرى لازالت الطريق إليها مقطوعة، وصلنا إلى أكادير إنصالح، أكادير إرغراغن، تلوين، يورغا، كاطوس وغيرها من الدواوير والمداشر، أعانتنا الساكنة بما تبقى لها من دواب نجت من الكارثة لإيصال بعض من المساعدات إلى المناطق التي تَمَنَّع علينا الوصول إليها.

فور وصولنا إلى أحد الدواوير، طلبت منا الساكنة عدم التوقف هناك، أخبرونا أن لديهم كمية لا بأس بها من الإعانات ووجهونا نحو الدوار الذي يليهم، فهم في حاجة أكبر كما أخبرونا.

عند مدخل أي دوار، وما إن تستشعر الساكنة هدير السيارات المطلة عليهم من التلال المتاخمة للجبل، تصطف الأهالي لتستقبلك بالتلويح والصياح وكثير من الكرم. يؤثرن على أنفسهم ولو كانت بهم خصاصة. هكذا استقبلنا أهل دوار كاطوس بجماعة الزاوية النحلية بإقليم شيشاوة. شاي وحلوى وحليب اقتطعوه من الزاد الذي من المفترض أن يذخروه، اختاروا أن يقتسموا معنا مؤونتهم ويكرموننا مخبئين ملامح الحزن لاستقبال ضيوفهم. كأنهم هم من يواسينا وكأننا نحن هم الضحايا. قد يقضي الزلزال على كل شيء، لكنه لن يستطيع القضاء على كرم متأصل.

ومع نهاية زيارتنا لكل دوار يجتمع سكان المنطقة ليقرؤوا “الفاتحة” ويرددوا دعوات من أجلنا. لا يمكن نسيان نظرة ذلك الشيخ ودعواته الصادقة التي لا تحتاج منا أن نفهم الأمازيغية حتى نحس بصدقيتها، كما لا يمكن أن ننسى إلحاح عجوز بلغة ممزوجة بين العربية والأمازيغية، حتى وإن لم نتبين معانيها، لكننا استشعرنا حمولتها في قلوبنا.

لن ننسى كذلك، ابتسامة فتاة صغيرة فرحة بكمية من الحلوى، فتمثل الأوليات عند الصغار ليس بالضرورة هو نفسه عند الكبار. كان هذا النوع من التفاصيل له وقعه الممتد على الاطفال. إنها بعض من مشاهد السعادة المسروقة تحلق فوق الدمار.

ركام وألعاب.. وآلام كثيرة في المنتصف

كانت المواد الغذائية قد وصلت بما يكفي، لكن كان هناك نقص في الخيم والأفرشة، في هذا الدوار وجدنا لديهم خيمة واحدة تم تثبيتها على أغصان شجرة وحيدة وسط القحط، تجتمع فيها نساء الدوار وتبتن هناك، بينما يفترش الرجال والأطفال الركام ويستمدون شعاع الأمل من ضوء القمر.

 

ابراهيم، طفل في الثانية عشر من عمره، رافقني في جولة فوق ما تبقى من حطام قريته أغادير إنصالح، ما يبدو لنا حطاما هو بالنسبة إليه كومة من الذكريات المدفونة نمشي فوقها. يعدد الموتى الذين هلكوا والمنازل التي سقطت والبهائم التي نفقت، حوالي عشرين بهيمة كان لازال بعضها يئن ورائحة الموت تفوح من تحت الأنقاض مخترقة كل ذلك الركام.

وصلنا إلى منزله الذي كانت معالمه قد اختفت، إلا جزء يسير منه، بقايا غرفة متهالكة تتوسطها طاولة خشبية مهترئة عليها تلفاز صغير لم يعد صالحا لنقل الصورـ بل أصبح بحد ذاته صورة تؤرخ للخراب.

في الفناء الخارجي للبيت الذي أصبح مستباحا بعدما انهار الجدار الذي يحميه نحو الهاوية أسفل الوادي المار تحت الدوار، صورة مؤلمة تحكي عن هول الفاجعة، قنينة غاز صغيرة جوار لعبة طفل صغير، هي ما تبقى من ذكريات على جدار البيت المحطم كليا، وما قد يظهر في البداية أنه منظر خلاب هو في الحقيقة منظر يختزل فظاعة ما شعرت به ساكنة البيت وما تعرضوا له في ليلة ناموا فيها باكرا واستيقظ بعضهم تحت الركام فيما خلد البعض الآخر في نومة أبدية بعدما أسلم الروح تحت الحطام.

واقع كانت تعيشه الساكنة أصبح بين لحظة ولحظة ذكريات، وتحولت أشياءٌ إلى أشلاء، وأجساد إلى جثث، وبناء إلى حطام، وأسر وعائلات إلى شهداء ومصابين، وأطفال إلى أيتام، واقع مهما حاولنا نقله بالصور والكلمات لن نستطيع وصف آثاره وما أدى إليه وما غيره من معالم في التضاريس وفي الأجساد وفي الأفئدة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News