رأي

الوعي الإسلامي المتحوّل

الوعي الإسلامي المتحوّل

لا يُصرّ الناس على الحفاظ على نمط حياتهم الضروري فقط، بل إن عادات الرفاهية قد ترتقي في الوعي إلى مستوى الضرورة. لكن ما نعتقده نحن رفاهية ربما لا يكون كذلك في أذهان الناس. فالمقاهي في البلاد العربية أصبحت نمط حياة ضروريا، يصعب على الكثيرين استبداله أو التفريط به أو تخيّل حياتهم من دونه.

والفقهاء في حاجة إلى معرفة هذا النوع من التحولات الحادثة في وعي الناس بمراتب الأمور. نعم المقاهي ليست ضرورية ولا حاجية وربما ليست تحسينية، لكن إغلاقها يعني إعلان حرب على اختيارات الناس.

ردّ الفعل الشعوري

ولنا أن نتخيل حجم ردّ الفعل الشعوري الذي قد ينشأ لدى الناس بسبب قرار منع ارتياد المقاهي وإغلاقها. إن المقهى ليست مكانا فقط لمتعة مشاهدة الرياضة والنقاش السياسي والاجتماعي، فهي بالنسبة للكثيرين هروب من المنزل والتزاماته ومشاكله، واستراحة من عناء العمل، وملجأ رحيم لفاقدي العمل.

إنها حياة كاملة وبرنامج يومي ومكتسب يصعب التفريط به.

عندما يحلّ شهر رمضان وتُغلق المقاهي، فبإمكاننا مشاهدة تبدّل حال المدينة وأسواقها، التي تبدو كأن خرابا قد نزل بأهلها، وذلك بسبب كثرة المقاهي وانتشارها. لقد تقبّلت فئة عريضة في فترة انتشار وباء كورونا الصلاة في البيت، عوض الاجتماع في المساجد. لكن الكثيرين قد عانوا بقسوة شديدة ومرارة جرّاء إغلاق المقاهي.

فالناس تقضي وقتا أطول في المقاهي، بينما لا يتطلب الجلوس في المسجد سوى مدة قصيرة. والكثيرون لا يتساءلون إذا ارتفعت أسعار المشروبات بأنواعها في المقاهي، ولا يفكرون في بدء حملة مقاطعة لتلك الأماكن. أو بالأحرى هم مستسلمون لذلك الأمر، استسلام العاشق لأذى معشوقه، مقارنة بدقة انتباههم لارتفاع أسعار المواد الأخرى في السوق.

وقد بدا لي حينها أن المحفزات الأساسية لنمو وتطور الرفض الاجتماعي، هو شعور الناس بالخطر على نمط ومستوى حياتهم من التغيير.

لقد أعاد الوباء تذكير أولئك الجالسين في سجون المنازل، إلى أي مدى يصعب تغيير أنماط حياتهم.

وتمتلك السلطة ميزة المعرفة الجيدة بما يشعر به الناس، ويبدو المثال حول قصة الضرائب التي تُفرض عليهم بشكل غير مباشر، الأقرب لشرح جانب من سلوكهم. فالضريبة الأكثر إجحافا والأقل ملاحظة من طرف الناس، هي الأكثر قبولا واعتيادا بالنسبة لهم، لكونها موزعة على كثير من المواد الأساسية بطريقة لا يشعرون بثقلها عليهم، كما أنها لا تزعج نمط عيشهم. بينما تعتبر الضريبة الأقل قيمة والأكثر مباشرة وملاحظة، الأشدّ رفضا بسبب افتقادها إلى الحيلة.

إن إحدى مشكلات الرفض الذي يعبّر عنه الناس تكمن في كونه مؤقتا بزمن محدّد، يعود الناس بعده إلى شوقهم للهدوء. إن الخبز سوف يهزم الحرية والكرامة، رغم أن الثلاثة يجتمعون في شعار ثوري واحد.

نعم يا سادة الخبز والاستقرار يهزم الثوار، ويخلق لهم من جديد حلم الاستقرار، بعد حلم الحرية السابق.

إن التحولات والثورات لا تحدث لمجرّد وجود الظلم والفقر، حتى ينضاف إليهما الوعي، ويكون الفقير المظلوم واعيا بفقره ومظلوميته، ويُنسج حول ذلك الوضع قصة جماعية.

وبالمقابل فإن وظيفة الكثيرين هي التلاعب بالمعطيات الخاصة بالوعي وتعطيلها، فيتم تصوير الفقر باعتباره ابتلاء وقدرا ينبغي الرضا به والتعايش معه. والمجتمعات في حال الاقتناع بهذا الأمر تدخل في حالة غيبوبة، فهي مثل الأفراد تُصاب بالغيبوبة في فترات زمنية معينة، تتخذ فيها قرارات بالغة الخطورة.

ربما يتحمّس الناس لقائد سياسي أو ديني يقودهم نحو الخراب، وهي اللحظة المناسبة التي يستفيقون فيها من غيبوبتهم.

إن ثورات الجياع عنوان لا ينتشر كثيرا في تاريخنا الإسلامي، مقابل الثورات ذات الأبعاد السياسية والدينية والمهدوية.

وأريد أن أنبّه هنا إلى مسألة أساسية، وهي أن التلاعب بالجماهير المسلمة أو تخديرها أو اعتبارها ضحية لنظام التفاهة ليس صحيحا دائما. فالناس مسؤولون وفاعلون أساسيون أحيانا كثيرة في صناعة وتطوير وتوسيع دائرة التفاهة، وهم ليسوا ضحية لها على الدوام.

إن جماهير المسلمين قد تضحي بنفسها بسخاء، كما أنها أحيانا تنسحب بذكاء. والأغلبيات الصامتة قد تقرر في لحظة معينة رفع صوتها وتقليد غيرها. ولا يمكننا أن نستثني هنا مفهوم التقليد وانتقال “عدوى” المطالبة بالتغيير في لحظات متزامنة، في تحليل سلوك الجماهير أثناء الثورات العربية عام 2011.

والحقيقة أن المجتمعات عبر التاريخ لا تعيش على مبدأ العقلانية فقط. وكثير من التحولات الكبرى حدثت بسبب لحظة سُبات عقلي جماعي، أو غيبوبة عن الوعي دخلها المسلمون، فنصروا وآمنوا بمهديّ منتظر في زمن ومكان ما.

سجلات التاريخ

وإذا مسحنا الأحداث والمواقف غير العقلانية من سجلات التاريخ، فلن يتبقى الكثير للمؤرخين ليذكروه. وسوف يبدو لنا التاريخ غاية في الملل، فالحمقى والمتهوّرون والنرجسيون قد وضعوا بصمتهم على معظم مجريات الأحداث.

إن كثيرا من المعارك قد نخسرها، لأن خيالنا الجامح وحتى الأحمق لم يتم استخدامه بالطريقة الصحيحة في تلك اللحظة. والذين وضعوا قميص عثمان أمام أنظار الناس لم يكونوا في حاجة إلى الكلمات والخُطب الطويلة، من أجل صناعة رأي عام ناقم ومتحفّز للانتقام من قتلته.

وإحدى المشكلات الكبيرة في التاريخ هو أنه لا ينقل لنا دائما الأحاسيس، التي كانت مصاحبة للأحداث والأشخاص والمواقف. فقدرتنا محدودة للغاية على معرفة المشاعر التي تولّدت لدى الناس، عندما كانوا يتقاتلون فيما بينهم مؤمنين جميعا أنهم على صواب.

فأهمية الحروب ليست في ما سيقوله المقتول، بل في ما سوف يقوله القاتل، وما يعبّر عنه لاحقا من مشاعر الندم أو النشوة، التي تعتبر جزءا أساسيا من معرفتنا بتحولات الوعي الإنساني عبر التاريخ. إن الحدث سوف يبقى ناقصا ما لم نتمكن من معرفة الوعي الذي رافق تلك التجربة الإنسانية.

وتُزاحم لحظات اللّاعقلانية غيرها من لحظات العقلانية في سلوك المسلمين، فكثير من المشاريع السياسية والفكرية تأسّست على قاعدة أحاديث الفتن وأشراط الساعة. إن حديث تحوّل الخلافة إلى ملك عضوض وجبري، ثم التبشير بعودة الخلافة، قد شكّل العمود الفقري والرؤية السياسية الشاملة لمشاريع فكرية وسياسية لتنظيمات إسلامية.

حيث أَسقطت التسلسل التاريخي الوارد في الحديث على أحداث الواقع، وتنبأت بقرب حلول زمن الخلافة. وبُنيت على هذا الأساس المواقف من السلطة وأدوات التعامل مع الواقع، وطرق استقطاب الأتباع والرؤية المستقبلية. وتتجسد اللّاعقلانية هنا في فهم البشر، لا في طبيعة التسلسل الوارد في الحديث.

لقد تشكّل جزء أساسي من وعي التنظيمات الإسلامية منذ ظهور موجة الصحوة الإسلامية حول مفهوم الغربة، الذي استقوه من حديث أن الإسلام بدأ غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء. حيث بُني حوله وعي ديني واجتماعي وسياسي في المرحلة التي نعيشها منذ أكثر من قرن، وشعور نفسي بمعنى الغربة في مجتمعات رأى فيها الكثيرون أنها بعيدة عن الإسلام. وكان هذا الحديث ملجأ وعزاء للمتدينين بشكل عام، وللإسلاميين المنتمين للتنظيمات في بدايات تشكل وعيهم بالواقع السياسي والاجتماعي، الذي كانوا يرون أنهم غرباء فيه ومنبوذون من الأغلبية والسلطة.

الوعي المتشبّع بالغربة

لكن الإحساس بالغربة كان دافعا وتحفيزا أيضا للشعور بامتلاك لذة الحقيقة. ويبدو أن الشعور بالغربة قد غادر الإسلاميين بفعل التحوّل الذي عرفه وعيهم بالواقع، فقد باتوا يبحثون لاحقا عن التخلص من الغربة ومشاركة المجتمع كل أنماط سلوكه.

إن التأريخ لتحولات الوعي الجماعي أمر بالغ الأهمية في فهم الظواهر، فقصة اجتماع الصحابة في دار الأرقم بن أبي الأرقم خفية عن أعين الناس لتدارس مستقبل الإسلام، قد شكلت جزءا كبيرا من وعي الإسلاميين في لحظات التأسيس. وكانت مجالسهم التربوية نسخة معاصرة من نسخة دار الأرقم، يجتمعون بكل حيطة وحذر من أعين السلطة ومعاونيها.

ويختارون نوعية الحاضرين المؤهلين لحمل الدعوة بدقة، ويردّدون قصة دار الأرقم في كل مناسبة. وكانت معاني الحذر والاختباء تشكل وعي الشباب المتدينين، وتمنحهم لذة الانتصار بمخالفة الباطل المنتشر. إن الكثيرين منهم لم يعودوا يهتمون بالمشاركة في المجالس الدعوية التعليمية، وإن لم يعد هناك خوف أو داع للاختباء.

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News