رأي

هل الفلسفة ضرورة لتغيير بنية الحياة في مجتمعنا؟

هل الفلسفة ضرورة لتغيير بنية الحياة في مجتمعنا؟

هل يمكن اعتبار الفلسفة عنصرا دخيلا على بنية حياتنا المجتمعية أم يمكن اعتبارها حاجة ضرورية تتطلبها حياتنا اليومية الفردية والجماعية وبالتالي فهي قوة مسيطرة لها القدرة على هدم البنيات السائدة واستبدالها ببنيات جديدة ملائمة للعصر والإنسان الجديد؟

هل الفلسفة غريبة على بنية حياتنا الاجتماعية خصوصا إذا ما علمنا أنها اغريقية المنشأ والهوية حتى ولو اجتهد مفكرونا وفلاسفتنا ونجحوا في ترجمتها ونقلها وتبييئها واستدخالها إلى الثقافة العربية المشرقية وأصبغوا عليها لونا “اسلاميا” وكان من بين هؤلاء الفلاسفة الفارابي والكندي وابن سينا وابن رشد وخصوصا هذا الأخير في كتابه (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال). لكن هذه “الفلسفة” العربية الإسلامية وجهت لخدمة الوحي والإيمان والخضوع للسلطة الدينية فهل أدى هذا التوجيه الروحي الإيماني للفلسفة العربية إلى فقدانها لخصوصيتها وقوتها العقلية؟

اليوم كما بالأمس نحن في حاجة إلى الفلسفة للسيطرة على الفكر اللاعقلي وإقامة ملكوت العقل مع أن اليوم ليس كالأمس حيث “دخلت” الفلسفة بقوة كمية ونوعية إلى منظومتنا التربوية بهدف تنمية جملة من المهارات والقدرات وتعزيز السلوك العقلاني المنظم في الحياة الفكرية والنفسية والدراسية والاجتماعية للمتعلم وهكذا “اجتاحت” الفلسفة الفصول الدراسية في ثانوياتنا وجامعاتنا وفي كل المسالك والشعب كما ان مدرسيها يعدون بالمئات والآلاف أما تلامذتنا وطلابنا الذين يتلقون هذه الدروس الفلسفية فيعدون بعشرات الآلاف بل مئات الآلاف لكن هذا لا يعني أن الثقافة الفلسفية دخلت حياتنا الاجتماعية وعلاقاتنا الإنسانية او أنها اندمجت في كل المشاريع المجتمعية. ويكفي أن نطرح السؤال التالي أي شكل وأية درجة من العقلانية تمارس في حياتنا اليومية وحياتنا العامة والخاصة وقد لا نخطئ حين نقول ان دخول العقلانية في حياة جزء يسير من أفراد المجتمع لا يعني أن الفلسفة قد دخلت في بنية حياتنا المجتمعية لأنه مازال مسلسل “الجهاد” على الحداثة مستمر ومعه استمرار مسلسل التضييق على الفلسفة كمنهج للفكر العقلاني والفلسفة كحداثة تؤسس لمفهوم جديد للمعاصرة.

إن حياتنا المعاصرة اليوم طغت عليها ألوان من الثقافات المكبلة لحرية الإنسان ومن بينها الثقافة العالمية الكوسموبوليتية المتجاوزة للقوميات التي صنعتها وسائل الاعلام والأدوات التكنولوجية الحديثة وتبثها الأقمار الاصطناعية وكل وسائل التوصيل الحديثة لـ”تصوغ” للناس رغباتهم وحاجياتهم وأشكال تصرفاتهم وعقلياتهم وأنظمة تربيتهم وأنماط حياتهم …وإذا كانت الفلسفة كمشروع تتميز بأنها السيطرة على الواقع بالعقل وهي سيطرة يتيحها انتصار العقل على كل القوى المستبدة بالإنسان تقنية كانت ام قيما وطبائع فان التأكيد على أن الفلسفة ضرورة انسانية ليس أمرا متجاوزا بل الفلسفة ضرورة واجبة لها حظ اكبر في المشاركة في تحرير وتغيير حياتنا ومجتمعنا أكثر من ذي قبل (كل فلسفة مبدعة تولد ثقافة مبدعة تسايرها).

في واقعنا اليوم لننظر الى حياتنا وعلاقاتنا الانسانية والاجتماعية فإننا نرى أنها لم تتغير كثيرا رغم احتكاك نخبنا واحتكاك أبنائنا وشبابنا بالفلسفة في قاعات الدرس أو في مدرجات العروض والمحاضرات أو في الفضاءات العامة للفكر والإبداع أو من خلال نشر وقراءة أعمال المفكرين والفلاسفة العرب والغرب… إنه لأمر يدعو الى التأمل: فهل تكون الفلسفة جسما غريبا بحيث أن البنية العضوية لمجتمعنا وحضارتنا لا تعمل إلا على رفض الفلسفة واماتتها؟ اليس في حياتنا اساس لقابلية التأثر تجعل من اندماج الفلسفة في شكل جديد للحياة في بلدنا ومجتمعنا ممكنا؟

إنه لابد من الاقتناع والايمان بأن الفلسفة هي ظاهرة فطرية طبيعية في الإنسان وليست شيئا دخيلا عليه لأن حياة الفرد عبارة عن حلقات متصلة من الفكر والتأمل تجعل عقولنا لا تكف عن التفلسف لأننا أن منعنا عنها ذلك نكون كمن يكلف الاشياء ضد طبيعتها. لذا فاإن التأكيد القائل بأن في كل إنسان استعدادا لقبول الفلسفة هو أمر بديهي وصحيح بل إن ضمن هذا المعنى يمكننا أن نقتنع أن للفلسفة اليوم حظا أكبر في المشاركة في تغيير الحياة المجتمعية أكثر من ذي قبل خصوصا في هذا العصر البيوتكنولوجي الذي يهدد مستقبل الإنسانية وتحويل الأجيال الآتية إلى أشباح مسوخ تهدد بإطفاء (جدوة كل قيمنا الإنسانية وإبداعاتنا الحضارية ) فوكو ياما- ومن هنا أهمية الفلسفة في حياتنا وحضارتنا.

الفلسفة بمفهومها العميق هي مشروع تتميز بأنها السيطرة على الواقع بالعقل وهي سيطرة يتبعها انتصار العقل على قوى التقدم اللامنضبط والخطير للوسائط الجديدة وقوى الجمود والرجعية والخرافة والجهل في الإنسان ذلك أن الفلسفة العقلانية لا تدخل في حياتنا بواسطة الكلام أو في صيغة ايديولوجيا وإنما تدخل في الصيغة الوضعية للمعارف العلمية والتجارب الإنسانية. والإنسان في نظر (اخنباخ) لا يمكنه أن يستخرج معاني الوجود إلا اذا اختبر الأحداث بجسده ونفسه وفكره يستكشفها بالمعاينة والنبش في الأعماق الداخلية ويستنطقها بالمساءلة والمراجعة والنقد ويستعيدها بالتفكيك والتركيب… والناس قد يعيشون حياة زائفة تسودها التفاهات والسطحيات والمظهريات لذلك لابد من التأمل في أصل الحياة وهدفها ومظاهرها وهو ما يدفع المرء إلى أن يفكر تفكيرا فلسفيا وهذا ما يبين ان الفلسفة ضرورة حياتية وضرورة مجتمعية لتغيير بنية الحياة الإنسانية.

الفلسفة كما يجب أن تقدم لناشئتنا وتلامذتنا وشبابنا هي أنها تعني ممارسة الروح النقدية وهذه الأخيرة لا يمكن تفسيرها إلا بالعقلانية والعقلانية هي الشك المنهجي والاستدلال بالبراهين. فأن نضع شيئا موضع الشك هو أن نضعه موضع الاختبار وموضع استقصاء كل الأفكار المتداولة في جميع المؤسسات الموروثة وجميع أصناف الموروث الثقافي من الأساطير والآداب والمثل والقيم التي عبرت عن تطلعات الأسلاف في جميع المجالات الدينية والاجتماعية والسياسية الخ.. إنه بهذا الجهد التحقيقي وحده يمكن للإنسان أن يمتلك تراثه (ما تلقيته من أسلافك اكتسبه لكي تمتلكه) يقول غوته (إن الفلسفة تحرير لأنها إرادة تفهم).

الفلسفة إذن ضرورة وحاجة تتطلبها حياتنا لأنها تؤمن أن الإنسان هو مصدر القيم وغاياتها فهل يمكن أن تصبح حياتنا (حياة فلسفية) تنزع القداسة عن الطبيعة وعن الموروث لتقيم على انقاضه ملكوت العقل؟؟ !!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News