رأي

امتحانات الباكالوريا وإعلام “البوز”

امتحانات الباكالوريا وإعلام “البوز”

من المؤسف حقا أن صارت تطفو على سطح المشهد الإعلامي في بلدنا وعلى منصات التواصل الاجتماعي مواقع إخبارية تفتقر إلى الحس المهني ولا تحترم أخلاقيات المهنة وتعاكس تماما الوظيفة الحقيقية للإعلام وهي الإخبار وتشكيل الرأي العام وتوجيهه نحو القضايا المصيرية والمهمة للانخراط الواعي فيها، إضافة إلى دوره في عملية التثقيف والتوعية. البعض من هذه المواقع يساهم في الحط من الذوق العام ونشر التفاهة والسخافة وتسطيح الوعي والتطبيع مع كل مظاهر الانقلاب القيمي، لا يهمها غير الرفع من نسب المشاركات والإعجاب في مظهر دال على سقوط أخلاقي ونضوب فكري وانحطاط مهني.

مناسبة هذا الحديث هي تلك البهرجة التي رافقت التغطية التي قامت بها هذه المواقع لامتحانات الباكالوريا وهي تسوق لكائنات لا يمكن أن يقال عنها إنها تلاميذ أو متعلمون بالمعنى الذي تدل عليه الكلمتان وما توحيان به من دلالات ترتبط بالتربية والتعلم والاجتهاد والخلق الحسن.

إنه بصورة أو بأخرى تسويق لنموذج تمثله عينة من المتمدرسين شاردين طيلة السنة الدراسية فاقدين لهويتهم التلامذية بما تتطلبه من توفر مواصفات الانتماء لمنظومة التربية والتكوين وما تتطلبه من التزام بالواجبات التي يفرضها التعلم واكتساب المعرفة ، سلبتهم وسائل التواصل الاجتماعي إرادتهم وصرفتهم عن القيام بواجباتهم والتزاماتهم المدرسية، غير مهتمين ولا يمتلكون من الكفايات الحد الأدنى لمواكبة إيقاعات التعلم في المستوى الدراسي الذي يوجدون فيه، وليس لهم من الرغبة والاستعداد ما يدفعهم إلى تحسين إمكانياتهم وقدراتهم نتيجة عوامل متعددة اجتماعية و تربوية، وكما يذهبون إلى الامتحانات النهائية برغبة قوية لممارسة الغش بأساليب مختلفة ومتطورة يصعب أحيانا كشفها يفعلون ذلك خلال إنجاز فروض المراقبة المستمرة، وهم من يأتي إلى المدرسين متوسلا ومتسولا النقط لينتقل إلى المستوى الدراسي الأعلى.

وهؤلاء الذين يمثلون هذه العينة هم من تستهدفه صحافة التفاهة و” البوز” وهم من يسهل عليها اقتناصه أمام أبواب المؤسسات التعليمية ومراكز الامتحانات ليدلوا بما ترغب فيه هذه الصحافة الممسوخة من قفشات بهلوانية وكلام سخيف وتصريحات فجة يفتخرون فيها بقيامهم بممارسة الغش بكل جرأة ويعلنون بكل وقاحة عن تذمرهم واستيائهم من حزم مراقبين لم يتركوا لهم فرصة ممارسة هوايتهم أو غوايتهم.

إن هذا النموذج لا تتحمل المدرسة بمفردها مسؤولية تشكله وإفرازه.. إنهم منتوج خالص لنسق اجتماعي معتل اجتماعيا وثقافيا ينتج مظاهر التواكل والاتكالية والانتهازية والنزعة الفردية والاستهلاكية، والمدرسة كمؤسسة اجتماعية ليست بمعزل عن هذا النسق الاجتماعي العام فهي مؤسسة متفاعلة بنيويا وتتكامل وظيفيا مع مختلف الأنساق السوسيواقتصادية والثقافية والسياسية المكونة له، ولا غرو إذن أن تنتج جيلا بهذه الهشاشة.

إن هذه المواقع، وهي تترصد هؤلاء التلاميذ بكاميراتها وميكروفوناتها عند أبواب مراكز الامتحان ليكونوا ” مادة إعلامية” دسمة لتحقيق البوز، تساهم بهذا الفعل في الترويج لخطاب الكراهية والعداء لرجال ونساء التعليم ولخطاب التطبيع مع الغش الذي بدا من خلال الفيديوهات المتداولة لتلاميذ ولبعض الآباء والأمهات ـ للأسف الشديد ـ كما لو أنه حق مشروع بل ومطلب لا يجب أن يحرموا منه ، كما يعتبر ما تقوم به هذه المواقع تبخيسا لجهود الدولة والوزارة الوصية على قطاع التربية والتعليم لضمان الشروط اللازمة لإنجاح هذا الاستحقاق الوطني، وضربا لمصداقية شهادة الباكالوريا كشهادة رفيعة لا زالت لها قيمتها الرمزية باعتبارها تتويجا للمسار الدراسي للمتعلم وجسرا نحو آفاق تكوينية جديدة تحدد معالم مستقبله . كما أن تغطيات هذه المواقع بهذه الصورة تمثل عامل إحباط للتلاميذ المجدين ولأسرهم الذين لا تلتفت إليهم أو لغيرهم من التلاميذ المبدعين في مجالات متعددة في الرسم والتشكيل والموسيقى والإبداع الأدبي والعلمي، للإشادة بمجهوداتهم وتطلعاتهم ومواهبهم وطاقاتهم الإبداعية ومسارات تحصيلهم الدراسي وبناء شخصياتهم ومشاريعهم.. للأسف أن هذا النوع من ” الإعلام الجديد” يسلط الضوء على كل شيء إلا على أهل العلم والمعرفة والثقافة وكأن لا أهمية لذلك ولا أهمية لحاملي شعار العلم والكفاءة والاستحقاق العلمي الذين اجتهدوا في بناء شخصياتهم وكيانهم بالعلم والمعرفة والتحصيل الدراسي المستمر والمثمر، وتختصر النجاح ـ بما تقدمه من محتويات ـ في مفاهيم مغلوطة وصور زائفة تروج لها وتسوقها، فتولد بذلك وعيا زائفا يوهم بأن تحقيق المستقبل وصناعة النجاح يعد له في زوايا أخرى ولا يتطلب مجهودا كبيرا أو اجتهادا كثيرا.

إن إصلاح منظومة التربية والتكوين في بلادنا إصلاحا حقيقيا لن يكون إلا في إطار شمولي ومشروع مجتمعي متكامل الأركان والعناصر وهو لا يخص هذا القطاع بمفرده، فإصلاح التعليم لا يتحقق إلا في علاقته بمجالات أخرى اجتماعية وسياسية واقتصادية، ويجب أن تنخرط فيه كل مكونات المجتمع وعلى رأسها الإعلام بكل أطيافه ليساهم في تعزيز الجهود اللازمة لتحقيق هذا الإصلاح باعتباره مسارا حاسما لرفع التحدي التنموي وبناء مجتمع واقتصاد المعرفة.

 

-أستاذ التعليم الثانوي التأهيلي مهتم بقضايا التربية والتكوين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News