صاحب “مائة حجّاية وحجّاية” لـ”مدار21″: الجدّات أديبات بالفطرة

يسعى الأديب والشاعر المغربي محمد البوعبيدي إلى توثيق الموروث الثقافي الشفهي للمملكة بمختلف صوره من حكايا وألغاز وأمثال وعِبَر لأسباب ليس أقلّها وعيه “ببداية تلاشي” هذه الذاكرة منذ مطلع الألفية الثانية.
“مائةُ حجّاية وحجّاية..جرد ، تفسير وتعليق” كتاب يعد باكورة هذا المشروع التوثيقي الذي يعكف البوعبيدي على تحرير أجزائه الأخرى والتي ستتناول الأمثال والحكايا التي ظلت تغذي وجدان المغاربة لسنين طويلة.
في هذا الحوار مع “مدار21” يأخذنا المؤلف في رحلة بكتاب الأحاجي المغربية كاشفا مميزاتها ومقوماتها ومدافعها عن سماتها الأدبية المتفرّدة.
كما يبسط، في السياق، ما تتسم به شخصية “المُحاجي” (حاكي الألغاز) من ألمعية وإحاطة بمتون الحكايا وقدرات على الخلق والإبداع وهي شخصية تكاد تجد اكتمالها في الجدات اللواتي يصادق صاحب كتاب الأحاجي على اعتبارهن “أديبات بالفطرة”.
البوعبيدي الذي بدأ تدوين التراث الشفهي منذ الألفين، يقدم أيضا، في حواره معنا، بعض أشهر الأحاجي الشعبية وما يتهدد هذا الشكل الشفهي وغيره من مخاطر النسيان.
وفي ما يلي نص الحوار:
ما هي مميزات الأحاجي في السياق الثقافي المغربي؟
الأحجية كما ننعتها في الفصحى أو “الحجاية” في العامية، تحمل معان عدة، فقد نقول حاجى بمعنى الكذب، ونقول حاجى بمعنى التخريف، و نقول حاجى بمعنى الحكاية، ونقول حاجى بمعنى ألقى لغزا، و هذه هي الغاية من هذا الكتاب، الحجاية اللغز الذي له مميزات و خصائص كفيلة بأن تحشره في مضمار الأدب، و تعطيه مكانة خاصة. من بين هذه المميزات هناك الحبكة و التكثيف و اللغة القوية و الإيقاع و بُعد المعنى، كما قد نستثمره في دراسات متعددة، سواء ثقافية أو سيميائية أو بنيوية أو اجتماعية أو تاريخية أو نفسية و أكثر، مما يجعلنا ندرك أهمية الحجاية في الأدب.
تعتبر أن الأحجية شكل أدبي..كيف ذلك؟ ما هي مقوماتها الأدبية؟
نعم، الأحجية شكل أدبي قائم بذاته، و هو إلى جانب المثل والحكاية عماد الأدب الشفهي الشعبي، وهي أشكال لها بنية متشابهة ومتداخلة. فقد نجد الأحجية تصير مثلا، أو المثل يصير أحجية، كما قد نحشر كليهما في حكاياتنا الشعبية، و عندما نهتم بدراسة نشأة الحجاية و تطورها و بنيتها و علاقتها بالأشكال الادبية الشعبية الأخرى و حتى الفصيحة، فنحن بهذا نؤسس للحجاية كشكل أدبي منفرد، سواء عن قصد أو عن غير قصد.
ارتبطت الأحاجي بالجدات..هذا يجعل الجدات أديبات بالسجيّة نوعا ما؟
الحديث عن الجدّات هو حديث عن واحد من مكونات الحجاية، و هو شخصية “المُحَاجي”، الذي يكون إلى جنب إلى “المُحاجَى له” و المتن المكونات الأساسية للأحجية. و من مميزات شخصية المحاجي أن يكون عارفا بالمتون وطريقة إدارة جلسات التحاجي و قادرا على الخلق و الإبداع، و تلك طبعا مواصفات الجدات اللواتي يحق لنا أن نصفهن بالأديبات بالفطرة، و نعترف بأن أدبهن أقرب إلى النفس و الروح مما سيأتي بعده من دراسة و تعليم في المدارس.
هل لك أن تقدم لنا مثالا أو أكثر عن بعض أشهر الأحجيات المغربية وأسباب شهرتها وانتشارها؟
الكثير من الحجايات مشهورة في المجتمع المغربي، و لم تعد مجرد حجايات فقط، بل صارت أمثالا تُضرب، لانها انتقلت من حالة اللغز إلى حالة التعبير. لم تعد لغزا، كأن نقول مثلا (راه راه و الغوت وراه)، فمنا من يفسر اللغز بالذئب إذا تعلق الأمر بالرعاة، ومنا من يفسره باللص إذا تعلق الأمر بسكان الحواضر، وهناك من يقول الهلال إذا تعلق الأمر بشهر رمضان..
أما عن سبب انتشار مثل هذه الحجايات و صمودها، فهي نفسها أسباب انتشار حكاية “هاينة” و بعض الأمثال من مثل (ما دير خير/حسنة ما يطرا باس)، فهو القوة التعبيرية، و البساطة، و جمالية اللغة، و سهولة الحفظ، و المطابقة للواقع. وإن كنت شخصيّا لا أفضل حجاية، بقدر ما أرى أن التفاعل في الأدب الشعبي وصل إلى مداه قبل سنة ألفين، ثم بدأ يُنسى و تتراجع أهميته لأسباب سنأتي على ذكرها في الوقت المناسب.
قلت في تصريح إعلامي إنك تعكف على تدوين سلسلة الموروث الشفهي..ما سر هذا الاهتمام؟ هل هذا الموروث مهدد بالاندثار؟
اهتمامي بتدوين الموروث الشفهي المغربي لم يأت لسبب واحد، ولكن لأسباب عدة، من أهمها مولدي ونشأتي البدوية الخالصة، وإدراكي لقيمته التعبيرية في حياة الإنسان، ووعيي ببداية تلاشيه منذ الألفين، و هي سنوات بدايتي في الجمع و التدوين لكل أشكاله: الحكاية، الحجاية، المثل، الغناء، فنون الرقص و المعاملات.
أعلم أن ما أقوم به هو عمل مؤسساتي، إلا أني لا أرى مؤسسة عاملة على جمع هذا التراث كما أريد، ولا أرى مؤسسة راغبة في ذلك، أو قادرة على منحي تعويضات كفيلة بتفرغي لتأليف موسوعة الأدب الشعبي كما حلمت بها و سطرتها و أشتغل عليها.