رأي

التوجيه الدستوري الملكي للبرلمان

التوجيه الدستوري الملكي للبرلمان

لقد اقتبس النظام الدستوري المغربي بنية البرلمان، كسلطة تشريعية منتخبة، من رصيد التجربة الديموقراطية الغربية، مع جعل جلالة الملك، بما له من مشروعية دينية وتاريخية هو الممثل الأسمى للدولة الذي يؤول إليه مصير القانون وإصدار الأمر بتنفيذه.

وإذا كانت قوة “البرلمانية الغربية المطلقة”، قبل إرساء “نظام العقلنة البرلمانية” قد ساهمت في تحديث العديد من الأنظمة الدستورية، بتقييد سلطتها التنفيذية وانتزاع كثير من اختصاصاتها لفائدة البرلمان، فإن قوة المؤسسة الملكية المغربية بتجذر سمو تمثيليتها وتموقعها فوق الصراع السياسي الانتخابي والتمثيلي ساهمت في تكريس أهمية التوجيه الملكي للبرلمان.

لذلك وفي سياق الدخول البرلماني الجديد وبمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة الثانية من الولاية التشريعية الحالية، سنحاول مقاربة حقيقة هذا التوجيه ببسط أهم الوسائل الدستورية المكفولة لجلالة الملك لتوجيه البرلمان، والتي تتجلى بصفة خاصة في الخطب الملكية (أولا) والحق الملكي في طلب القراءة الجديدة (ثانيا) وإصدار الأمر الملكي بتنفيذ القانون (ثالثا).

أولا: التوجيه الملكي للبرلمان من خلال الخطب الملكية

يعد الخطاب الملكي موجها أساسياً في الحياة السياسية والبرلمانية المغربية، بحكم كونه نابع من أعلى سلطة تمثيلية للأمة في البلاد ومجسد للرؤية الرسمية السامية، ويتم به توجيه بوصلة العمل البرلماني والحكومي لما يتعين التركيز والاشتغال عليه. كما توظف مضامين التوجيهات الواردة فيه كقواعد سامية لتوجيه العمل التشريعي وبلورة سياسات عمومية في مختلف القطاعات الحكومية التي تعود مسؤولية مراقبتها السياسية وتقييم أدائها للبرلمان.

ويمكن التمييز في هذا الصدد بين الخطاب الملكي الافتتاحي للبرلمان (أ) والخطب الملكية الموجهة للأمة والبرلمان (ب).

أ- الخطاب الملكي الافتتاحي للبرلمان

ينطلق التوجيه الملكي للبرلمان في وظائف التشريع والمراقبة وتقييم السياسات العمومية منذ مناسبة الافتتاح الرسمي لدوراته التشريعية الأولى برسم كل سنة تشريعية. فهذا الافتتاح السنوي ليس مجرد بروتوكول شكلي يعزز الرصيد الرمزي للشرعية الدستورية، لأن الملك يلقي فيه خطاب يوجه فيه العمل البرلماني والحكومي وينتقده في عدة حالات.

وتكتسي الرئاسة الملكية الفعلية لجلسة افتتاح البرلمان أهمية بالغة، سواء من حيث رمزيتها وخصوصيتها البروتوكولية التقليدية (الافتتاح يوم الجمعة، ارتداء اللباس التقليدي، قراءة القرآن، النقل التلفزي المباشر لوقائع الافتتاح…)، أو من حيث ما تثيره من توجيهات واقتراحات وأوامر للسلطات العمومية وكذا إثارة انتباه أعضاء البرلمان إلى أهم القضايا التي تشغل المواطنات والمواطنين وتقتضي عناية كبيرة.

فعلى سبيل المثال تضمن الخطاب الملكي الافتتاحي لأول دورة (أكتوبر2021) من الولاية التشريعية الحالية التأكيد على ضرورة تظافر الجهود حول الأولويات الإستراتيجية الثلاثة المتعلقة بتعزيز مكانة المغرب وحماية مصالحه العليا من خلال تعزيز أمنه الاستراتيجي الضروري من المواد الأساسية الغذائية والصحية والطاقية وبتحقيق الإنعاش الاقتصادي لتجاوز آثار الأزمة الوبائية وبالتنزيل الفعلي للنموذج التنموي وإطلاق مشاريع إصلاحية جديدة فضلا عن استكمال ورش تعميم الحماية الاجتماعية والتغطية الصحية.

كما أكد الخطاب الملكي الافتتاحي للدورة التشريعية الحالية (أكتوبر 2022) على أن افتتاح البرلمان ليس فقط مناسبة دستورية، لتجديد اللقاء الملكي بممثلي الأمة بل موعدا سنويا هاما، لطرح القضايا الكبرى للأمة، لاسيما تلك التي تحظى بالأولوية، حيث حدد التوجيه الملكي بوصلة النظر البرلماني والحكومي للتركيز على  إشكاليتي  الماء، مع تجنب جعله موضوع مزايدات سياسية أو مطية لتأجيج التوترات الاجتماعية والاستثمار، بما يتطلبه من رفع لعراقيله وتفعيل كامل لميثاق اللاتمركز الإداري، وتبسيط ورقمنة المساطر الإدارية، وتسهيل الولوج إلى العقار، وإلى الطاقات الخضراء، وكذا دعم حاملي المشاريع.

وتجدر الإشارة إلى أن دستور المملكة الأول لسنة 1962 كان ينص في الفصل 39 على أن: “الملك يترأس الدورتين اللتين يعقدهما البرلمان، وتبتدئ الأولى في 18 نونبر والثانية في الجمعة الأخيرة من شهر أبريل”، بيد أن جميع التعديلات الدستورية اللاحقة لم تحمل أية إشارة صريحة إلى رئاسة الملك  لافتتاح الدورة الثانية للبرلمان، حيث ينص الفصل 38 من دساتير 1970 و1972 و 1992 و الفصل 40 من دستور 1996 والفصل 65 من دستور 2011 على أن: ” الملك يرأس افتتاح الدورة الأولى التي تبتدئ يوم الجمعة الثانية من شهر أكتوبر وتفتتح الثانية يوم الجمعة الثانية من شهر أبريل”.

وقد لا يسعف هذا المقتضى الدستوري الضمني في استنباط سقوط الحق الملكي من إمكانية رئاسته للدورة التشريعية الثانية، لاسيما باعتبار الملك هو رئيس الدولة وممثلها الأسمى الذي يملك حق توجيه خطاب للأمة والبرلمان.

ب–الخطب الملكية الموجهة للأمة والبرلمان

لقد نصت جميع دساتير المملكة على إمكانية توجيه خطب ملكية للأمة والبرلمان، وتتمتع هذه الخطب بحصانة دستورية مطلقة ولا تترتب عنها مسؤولية سياسية، كما لا يمكن أن يكون مضمونها محل أية مناقشة برلمانية، انسجاما مع الفصل 52 من دستور 2011 الذي أصبح يمنع هذه المناقشة فقط على مستوى البرلمان، حيث ورد فيه ما يلي: ” للملك أن يخاطب الأمة والبرلمان، ويتلى خطابه أمام كلا المجلسين، ولا يمكن أن يكون مضمونه موضوع أي نقاش داخلهما”، وذلك على غرار ما كان واردا كذلك في الفصل 28 من دستور 1962  الذي ينص على ما يلي:” للملك أن يخاطب البرلمان والأمة ولا يمكن أن يكون مضمون ما يخاطبها به موضع نقاش من طرف البرلمان”، علما أن بقية دساتير المملكة كانت تنص صراحة على حظر جعل مضمون الخطب الملكية موضوع أي مناقشة بصفة شاملة، سواء داخل البرلمان أو خارجه، لأنها تجنبت أي تحديد في ذلك بموجب الفصل 28  الذي كان ينص على أنه لا يمكن أن يكون مضمون خطاب الملك موضع أي نقاش.

وتعبر الخطب الملكية الموجهة للأمة والبرلمان عن إرادة سياسية وتشريعية ملكية ملزمة للسلطات العمومية. فما تثيره من توجيهات وتعليمات تكتسي صبغة قانونية ملزمة تستوجب تنفيذها طبقاً للتعليمات السامية. لذلك يمكن أن تتضمن الخطب الملكية إجراءات تشريعية ملزمة للبرلمان، وهو ما يجعل الملك صاحب مبادرة تشريعية غير مباشرة أو مشرعاً ساميا فوق مؤسسة التشريع.

ويمكن الإحالة على نماذج من قضايا كان للخطاب الملكي فيها صبغته الإلزامية كما يلي:

ففي عهد جلالة الملك محمد الخامس قضت محكمة الاستئناف بحل الحزب الشيوعي المغربي سنة 1960، باستنادها على فحوى خطاب ملكي ندد بالإيديولوجيات والمذاهب المتناقضة مع دين الدولة والبيئة الاجتماعية المغربية.

كما أن جلالة الملك الحسن الثاني اتخذ قراراً ملزماً بمناسبة خطاب الذكرى السابعة والعشرين لثورة الملك والشعب (20 غشت 1980)، ويتعلق الأمر بتخفيض ثمن الكراء بنسبة الثلث لفائدة الأشخاص الذين يتقاضون مرتبات أو أجوراً تقل عن 1500 درهم للشهر، وإعفاء الذين سيقومون بتشييد مباني من أجل كرائها من الضريبة لمدة 15 سنة.

أما في ظل العهد الملكي الحالي فيمكن الإشارة إلى أن مبادرة إحداث صندوق محمد السادس للاستثمار بموجب قانون رقم 76.20 ومبادرات التفعيل القانوني لورش تعميم التغطية الاجتماعية والصحية التي تشمل تعميم التغطية الصحية الإجبارية والتعويضات العائلية وتعميم الاستفادة من التأمين عن فقدان الشغل تجد مرجعيتها في الخطاب الملكي لجلالة الملك محمد السادس ليوم 9 أكتوبر 2020.

ثانيا: التوجيه الملكي للبرلمان من خلال طلب القراءة الجديد للتشريع

يمكن للملك في علاقته بالبرلمان أن يمارس حق الاعتراض على أي نص تشريعي وإيقافه بعد تمام موافقة البرلمان عليه بصفة نهائية، بحيث يمكن أن يطلب منه بواسطة خطاب قراءته قراءة جديدة. ويندرج هذا الحق ضمن اختصاصه الدستوري العادي وذلك بصفته ممثلا أسمى للدولة وساهراً على احترام الدستور.

وإذا كانت جميع الدساتير المغربية نصت على حق الملك في تفعيل هذه الألية الدستورية فإن مضمونها قد خضع للتطور.

فبالرجوع إلى دستور 1962 (الفصلان 70 و71) نجد أن التنصيص على طلب القراءة الجديدة اقتصر فقط على مقترحات القوانين. كما أن هذا الطلب يخضع للتوقيع بالعطف عليه من طرف الوزير الأول.

وفي دستور 1970 الفصل (64 و65) فإن طلب القراءة الجديدة لمقترحات القوانين لم تعد تخضع للتوقيع بالعطف من لدن الوزير الأول، إذ يكتفي الملك بطلب القراءة الجديدة بخطاب موجه إلى مجلس النواب.

أما في باقي الدساتير الموالية (الفصلان 66 و67 من دستوري 1972 و1992 والفصل 95 من دستور2011) فقد أصبح طلب القراءة الجديدة بخطاب يهم كل مشروع أو مقترح قانون ولا يمكن أن ترفض هذه القراءة الجديدة.

ومن المعلوم أنه يتعين إثارة الانتباه إلى خلو الممارسة العملية من تجربة تفعيل هذه الوسيلة الدستورية الملكية، بيد أنها تظل في كل الأحوال مثيرة لأهمية وإلزامية تماهي إرادة سلطة البرلمان في التشريع مع إرادة الملك باعتباره الممثل والمشرع الأسمى. مما يكرس عقلنة الإرادة السيادية للبرلمان ويحول دون تبنيه قوانين لا تنسجم مع السياسة العامة للدولة والتوجهات الملكية التي لا تخضع لمنطق ترجيح ميزان التصويت البرلماني وصراع الفرقاء والأفكار الحزبية والبرلمانية.

لذلك لن يترتب عن طلب القراءة الجديدة لأي مشروع أو مقترح قانون صادق عليه البرلمان بصفة نهائية إلا إعادة النظر فيه كلما تبين لجلالة الملك مخالفته للدستور أو لتقديره الشخصي للمصلحة العليا للبلاد، وذلك قبل إصدار الأمر بتنفيذه ونشره.

ثالثا: التوجيه الملكي للبرلمان من خلال إصدار الأمر بتنفيذ القانون 

يعد إصدار الأمر الملكي بتنفيذ القانون أحد أهم الوسائل الدستورية المباشرة التي تخول للملك سلطة توجيه العمل التشريعي للبرلمان. فالإصدار إجراء دستوري وقانوني جوهري لجعل المسطرة التشريعية مكتملة، وبدونه يتعذر خروج القانون الذي وافق عليه البرلمان بصفة نهائية إلى حيز الوجود، إذ الملك هو الذي “يصدر الأمر بتنفيذ القانون” (الفصل 26 من الدساتير الخمسة الأولى والفصل 50 من دستور2011).

وتجدر الإشارة إلى أن الإصدار ليس مجرد تقنية رمزية، بل هو إجراء دستوري جوهري لمراقبة التشريع من لدن الملك، بما يضفيه على القانون المصادق عليه من لدن البرلمان من صبغة ملكية رسمية تقر بانسجامه مع الإرادة الملكية والسياسة العامة للدولة ومع المقتضيات الدستورية والقانونية الجاري بها العمل، وبالتالي إثبات التحقق من تناغم الإرادة التشريعية للبرلمان مع التوجه الملكي.

كما أنه يلعب من جهة أخرى وظيفة الأمر بتنفيذ القانون، فبمجرد وضع الطابع الشريف عليه يصبح مرتباً لآثاره القانونية على الملزمين المعنيين به ويعبر عن إعطاء الأمر الملكي للسلطات العمومية بنشر النص التشريعي وتفعيله.

وقد تميزت التجارب الدستورية لمرحلة ما قبل 1992 بثغرة إطلاقيه أجل الإصدار وعدم التصريح بإلزاميته في مدة محددة، بحيث كان يمكن للملك أن يمتنع عن إصدار أي قانون، دون أن يثير ذلك أي إشكال دستوري، انسجاما مع روح الدستور الذي غض الطرف عن أجل الإصدار وتركه للسلطة التقديرية للملك. بيد أنه لابد من الإشارة إلى أنه، من الناحية الواقعية، لم يحصل أن تم رفض إصدار أي قانون، دون أن يعني ذلك حصول تأخر كبير في إصدار بعض القوانين. ومن الأمثلة على ذلك، نذكر بقانون رقم 07.81 يتعلق بنزع الملكية للمنفعة العامة والاحتلال المؤقت الذي أقره البرلمان في 22 دجنبر 1980 ولم يصدر الأمر بتنفيذه ونشره إلا في 6 ماي 1982 و قانون رقم 07.92 يتعلق بالرعاية الاجتماعية للأشخاص المعاقين الذي أقره البرلمان في 26 دجنبر 1991 ولم يصدر الأمر بتنفيذه ونشره إلا في 10 شتنبر 1993 وقانون قانون رقم 12.90 يتعلق بالتعمير الذي أقره البرلمان في 12 يوليوز 1991 ولم  يصدر الأمر بتنفيذه ونشره إلا في  17 يونيو 1992.

بيد أن الثغرة الدستورية المتعلقة بأجل إصدار الأمر الملكي بتنفيذ القوانين تم تجاوزها منذ إقرار دستور 1992، حيث أضحى القانون يدخل حيز التنفيذ في أجل لا يتعدى الثلاثين يوما  التالية لإحالته من البرلمان إلى الحكومة بعد تمام مصادقته عليه ( الفصل  26 من  دستور 1992 والفصل 50 من دستور 201). وهذا التحديد لا يمكن إنكار أهميته في تعزيز النجاعة والفاعلية التشريعية في مسار التطور الدستوري والسعي لتكريس دولة الحق والقانون.

وحيث إن التقييد الزمني لأجل الإصدار لا يوازيه أي تحديد دستوري لكيفية تقدير الأثر المفترض في حالة عدم تحقق هذا الإصدار في حد ذاته. حيث يمكن ترجيح أن يؤول الأمر إلى تقدير ذلك باعتباره رفض ملكي ضمني للقانون.

وفي هذا الصدد، ومن زاوية علمية موضوعية، نثير الإحالة على سابقة وحيدة تهم عدم إصدار قانون معدل لقانون رقم 15.91 يتعلق بمنع التدخين والإشهار والدعاية للتبغ في الأماكن العمومية (أصله مبادرة تشريعية برلمانية)، حيث أقره البرلمان بصفة نهائية بتاريخ 13 يناير 2009 ولم يتحقق ما يثبت إصدار الأمر بتنفيذه ونشره بالجريدة الرسمية، علما أن أحكام دستور 1992 لم تكن تنص على إلزامية النشر في الجريدة الرسمية ولم تقيد أجل النشر في حد ذاته. كما أن اعتماد المملكة للدستور جديد سنة 2011 ساهم في حجب كل العلل والتأويلات الممكنة لعدم إتمام المسطرة التشريعية المتعلقة بالنص التشريعي المذكور لاسيما مع تسجيل عدة مبادرات تشريعية برلمانية تهم نفس الموضوع.

ولئن كان المشرع الدستوري لم يفرض شكلية النشر في الجريدة الرسمية في المراحل السابقة، فإن دستور 2011 تجاوز هذه الأمر حتى لا يؤول عدم تنفيذ القانون إلى علة تأخر نشره، حيث ينص الفصل 50 منه على نشر القانون الذي صدر الأمر بتنفيذه، بالجريدة الرسمية للمملكة، خلال أجل أقصاه شهر ابتداء من تاريخ ظهير إصداره.

وبالإجمال، فإن مختلف وسائل التوجيه الملكي للبرلمان لا يمكن إلا أن تثير أهمية مضاعفة الجهد البرلماني لتعزيز التفاعل معها، وذلك برفع وتثمين المنتج التشريعي والرقابي وضمان نجاعة تقييم السياسات العمومية حرصا على تجويد “صورة البرلمان” وملاءمة مستوى سرعة تجاوبه الحقيقي ومعالجته للقضايا التي تشغل المجتمع مع الدينامية الملكية ومواكبتها المتقدمة والطموحة لتلك القضايا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News