رأي

العنف اللفظي والقسوة في الانتقاد.. لا تصحح الأخطاء

العنف اللفظي والقسوة في الانتقاد.. لا تصحح الأخطاء

في مواقف كثيرة، تستوقفني كمية العنف اللفظي والقسوة في المواقف التي تميز ردود أفعالنا عندما يقع شخص في زلل أوخطأ، يعتقد الناس أنه يستحق الانتقاد. ويكون الأمر أكثر حدة عندما يكون صاحب “الزلل” شخصية عمومية، من عالم السياسة أوالفن أوالرياضة أوالأعمال، حيث نرى الناس يسارعون بالصعود إلى “منابر الوعظ الاجتماعي”، ويتحول الجميع إلى رسل منزّهين عن الخطأ، ويبدأ الهجوم اللفظي الحاد على من أخطأ… و”هاك بلاك… ما كاين غير التشيار بالهضرة… وكلشي تايولي مثالي ومنزّه وعارف بالأخلاق الحميدة، غير هذاك مسكين اللي جات فيه النوبة!”.

هذا الأسبوع، صادفت حملات استنكار شرسة وانتقادا لفظيا عنيفا، وسخرية بئيسة، انخرط فيها عدد من مواطنينا ضد ملاكم مغربي شاب، اسمه يونس باعلا، اتهم بأنه “شوَّهنا” بعد أن “عضّ” أُذُن منافسه في مباراة ملاكمة خلال أولمبياد طوكيو، فقامت الدنيا حوله ولم تقعد.

وصراحة، لم أرغب في التطرق إلى الموضوع لولا أنني تفاجأت أن بعض الأقلام الصحفية المحترمة، وبعض المؤثرين الجادين، انخرطوا هم أيضا، مع كامل الأسف، في “الحملة” بشكل غير عقلاني وغير مبرّر، وساهموا في تأجيج “حفلة الرجم” على مواقع التواصل الاجتماعي، وكأن ملاكمنا الشاب قد أذنب ذنبا لا يغتفر، أو أنه أتى بما لم يأت به أحد قبله من الرياضيين، أو من البشر عامة.

الحقيقة هي على غير ذلك، وحري بنا أن ننزل من أبراجنا العاجية ونستحضر أن الخطأ والانفعال وارد في الرياضة وفي غيرها، وأن التعاطي البنّاء مع “المخطئين” له قواعد وضوابط، ليس من بينها القسوة والسخرية والعنف اللفظي الذي قد يؤدي إلى نسف أحلام وطموحات مشروعة، خاصة لفئة الشباب.

ما حدث للملاكم المغربي هو تصرف انفعالي مفاجئ، يمكن أن يقع أثناء منافسات رياضية أو خارجها، بسبب ضغط عصبي أو نفسي يصل إلى درجة حادة تدفع صاحبها إلى أن يبتعد عن سلوكه العادي، ويتصرف بشكل عنيف في لحظة انفلات غرائزي. وقد يكون لذلك سبب وقع خارج السياق التنافسي، أو سبب يجري أثناء زمن التنافس، دون أن ينتبه له أحد سوى المعنيون على أرض حلبة التباري.

وهنا، لا بد أن أذكر حالتين مماثلتين سابقيتين، الأولى لأحد أكبر أبطال رياضة الملاكمة في التاريخ، وهو مايك تايسون، الذي عض أذن منافسه الكبير إيفاندر هوليفيلد، في بطولة العالم، سنة 1997، أمام أعين مئات الملايين من المتفرجين الذين كانوا يشاهدون النزال مباشرة. لم يفهم أحد سبب ما قام به مايك تايسون، إلى أن أخبر هذا الأخير، جمهوره ووسائل الإعلام، أن سلوكه الانفعالي جاء كرد فعل على تعمد “هوليفيلد”، في كل التحام بينهما، أن يضرب برأسه وجه تايسون، مما استفزه فوقع ما وقع.

والحالة الثانية، وهي شهيرة أيضا، وقع فيها لاعب كرة القدم الأوروغواياني لويس سواريز، الذي عضّ، في مناسبتين اثنتين، لاعبين منافسين: المرة الأولى، سنة 2013، بقميص ليفربول حيث قام بعض لاعب شيلسي برانيسلاف إيفانوفيتش؛ والمرة الثانية، بقميص منتخب الأوروغواي، حيث عض لاعب منتخب إيطاليا جورجيو كيليني، في كأس العالم 2014. وأتذكر لصاحبنا لويس سواريز، محاولات أخرى للعض، لم تكتمل في بعض مباريات “الليغا” الإسبانية.

الفرق بيننا وبين المعنيين بالحالتين معا، أن الجمهور لم يتصرف، هنالك، كما لو أن السماء سقطت على رؤوس سكان الأرض، ولم يتم تعريض الرياضيين للرجم اللفظي والسخرية بلا حدود، ولم يتهمهما أحد بأنهم “شوّهو” بلدهم أو أساءوا لقضية معينة، بل طبقت عليهم قوانين اللعبة، وحازوا بعض الانتقاد المعقول، وانتهى الأمر لتستمر الحياة.

بكل تأكيد، كل البشر قد يغضبون وينفعلون، ويحدث أن يتجاوز الانفعال الحد ليتحول، فجأة وفي سياق معين، إلى سلوك شبه غرائزي ينتج عنه عنف. لكنني، لا أعتقد أن الأخطاء، حين تقع في السياق الرياضي، تعطينا الحق كي ننزل بعنف لفظي وسخرية قاسية لنحطّم صورة ونفسية “إنسان/شاب/رياضي” صدر عنه سلوك يستحق الانتقاد. بل الواجب هو التصحيح والإصلاح والتوجيه والمواكبة، وإن اقتضى الأمر، إنزال العقوبات التي تفرضها القوانين والأنظمة المعمول بها.

شخصيا، أعتقد أننا لا نستحق الاحترام عندما نتفنّن في انتقاد الآخرين، ونسارع إلى إصدار أحكام قيمة قطعية نهائية، قد تقضي على طموحات وأحلام أناس كثيرين لهم مؤهلات رائعة، إلا أنه لسوء حظهم وقعوا في الخطأ في بيئة مجتمعية يعتقد كثير ممن يسكنونها بأنهم ملائكة منزّهون عن الزّلل، وأن باقي البشر شياطين يستحقون الرجم لأتفه الأسباب، والتدمير المليّ بلا شفقة ولا تسامح.

أما الجمهور، فعليه أن يكون واعيا أن ما يستحق أن يوصف ب “شوهة رياضية”، ليس بالضرورة هو سلوك ملاكم أو عدّاء أو رياضي، كان مستواه التقني ضعيفا أو أخطأ هنا أوهناك، بل ربما لفظ “الشوهة” الرياضية لائق بأمور وحالات أخرى لا يراها الجمهور على شاشة التلفزة، فلا يوجه انتقاده نحو أصحابها كما ينتقد ويغضب من ملاكم انفعل و”عضّ” منافسه على الهواء مباشرة، أو عدّاء سقط أرضا عند حاجز معين.

بشكل عام، يحتاج منا شباب الوطن، أن نستمع إليهم جيدا، وأن نواكبهم باحترام وإنسانية ومودة، وأن نحل معهم عوائق كثيرة تمنعهم من الانطلاق. لذا، كفى من القسوة أيها “المتفرجون” و”المعلقون” و”المتتبعون”، فالحياة لا تحتمل كل هذه الطاقة السلبية التي نتقن إنتاجها لندمر طموحات بعضنا البعض، ونؤذي كثيرا من الشباب الذين لا ذنب لهم سوى أنهم سقطوا مرة أو مرتين، وعوض أن نكون إلى جانبهم ونمد أيدينا إليهم، كي نعينهم على التصحيح والتصويب، نقيم على شرفهم “حفلة الرجم” عند أول كبوة، وندفنهم رمزيا حتى تموت معنوياتهم ويزول لديهم أي أمل في النهوض مجددا.

أتمنى بصدق أن يسترجع الملاكم المغربي يونس باعلا هدوءه وثقته في نفسه، وأن يعود للتمارين لتطوير مستواه بشكل أكبر، كي يكمل مسيرته الرياضية لأنه يستحق ذلك، ولأن من هم وراءه من أصدقائه ومن عائلته، ربما، يعيشون معه من أثر مجهوده وعائدات نجاحاته. فلندعمه، هو وكل الرياضيين وكل الشباب المغربي، حتى يكرّروا المحاولات إلى أن يتحقق لهم النجاح الذي يحلمون به. ولنهتم بالتِمَاسِ الرحمة والعفو لنا ولغيرنا، وليكرّس كل منا طاقته لإصلاح زلاته وأخطائه، فلنا من السلوكات غير اللائقة ما يكفي لننشغل في تصحيح ذواتنا وتقويم اعوجاجاتنا، ونكف عن رجم الآخرين بقسوة المتعالين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News