رأي

مذكرات عبد السلام جلود: تزوير للحقائق وافتراء على التاريخ

مذكرات عبد السلام جلود: تزوير للحقائق وافتراء على التاريخ

يبدو أن قدرنا في المغرب هو أن نظل هدفا لخطط الأعداء ومؤامرات المتربصين ببلادنا إلى آخر الزمان. فما أن ندبر ملفا أو نفكك لغما تضليليا زرعته هذه الجهة أو تلك، حتى يقوم الخصوم بزرع ألغام جديدة في طريقنا بغرض توظيفها في حروب إعلامية لتشويه صورة بلادنا وإلهائنا عن الأهم، ألا وهو تعزيز التنمية وتسريع التأهيل الشامل الذي نطمح إليه لتطوير واقع البلاد والعباد نحو الأفضل.

آخر فصول الديناميكية العدائية التضليلية ضد المغرب، تمثل في ما قاله عبد السلام جلود، رئيس وزراء ليبيا وأحد أركان النظام السابق، في حوار تلفزي أجراه على قناة “فرنسا 24″، هذا الأسبوع، للحديث عن مذكراته التي نشرها قبل مدة. وما أثار الانتباه في ما قاله جلود، حديثه عن شأن مغربي خالص وخاص، حيث قال: (حينما تم الإعلان عن تأسيس جبهة البوليساريو في 1972 بحضور الرئيس الجزائري هواري بومدين، ذهبت إلى المغرب لمقابلة الحسن الثاني من أجل دعوته لدعم البوليساريو لتحقيق استقلال الصحراء الغربية من الاستعمار الإسباني، لكن الحسن الثاني قال لي أنا أعيش في حقل من الألغام في بلدي وعندي من المشاكل ما يكفيني، والصحراء الغربية لا تعنيني وهي ليست مغربية حتى ادافع عنها).

بعا، ليس على مثل ذلك الكلام شاهد، ولا وجود لأي مصدر يؤكد احتمال 1% بأن كلام جلود صحيحا. كما أنه لم يسبق أن تجرأ أحد على اختلاق ذلك المعنى من قبل. وحتى كبار رجال المعارضة المغربية في مرحلة السبعينيات، لم ينزلوا بالصراع السياسي إلى مستنقع الكذب على جلالة الملك الحسن الثاني، وتقويله في مسألة الصحراء المغربية ما لم يقله من كلام، مثل ما فعله عبد السلام جلود بشكل بئيس أخلاقيا ولامسؤول تاريخيا وسياسيا

راحة، وأنا أنصت لما قاله المسؤول الليبي الخارح من غياهب النسيان، داهمتني مجموعة من الأسئلة منها:

كيف يمكن تصديق أن عبد السلام جلود، الرقم الثاني في نظام القذافي المتورط في التآمر على المغرب وتشجيع المحاولتين الانقلابيتين في بداية السبعينيات، يمكن أن يحضى أشهرا فقط بعد ذلك، في سنة 1972، بشرف الجلوس بين يدي المغفور له جلالة الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه، وكأن شيئا لم يقع، ويتحدث إليه رأسا لرأس، وكلنا نعلم أن الملك الحسن الثاني كان له مستشارون لا يفارقونه في مثل تلك اللقاءات. ثم يأتي جلود، في سنة 2022، أي بعد 54 سنة، ليدعي أن الملك الراحل قال كلاما كالذي يدعيه، في غياب أي دليل يزكي روايته؟؟

أي عقل يمكن أن يصدق أن مبدع المسيرة الخضراء، المغفور له الملك الحسن الثاني، الوطني الغيور الذي كانت الصحراء المغربية تسكن قلبه وعقله، وتشكل ركيزة أساسية في تمثله للامتداد التاريخي والسياسي للمملكة المغربية، يمكن أن يفكر بالشكل الذي يحيل إليه ما يدعيه عبد السلام جلود، الذي خرج فجأة من الجحر الذي كان متخفيا فيه، بتنسيق مع الجهات التي تواطأ معها بصمته، منذ سقوط النظام الليبي السابق؟

كيف لا نستنتج أن نفس تلك الجهات هي التي تقف وراء دفع جلود لنشر كذبة كبيرة في أمر دقيق وحساس للغاية بالنسبة للمغاربة ؟ وإلا كيف نفهم أن الرجل ظل صامتا طيلة هذه السنوات؟ وماذا قدمه جلود مقابل النجاة من نفس مصير القذافي، وبعض أركان نظامه، دون أن يمسه سوء  وهو الذي كان يحكم عمليا ليبيا أكثر مما يحكمها العقي؟

لماذا اختار المسؤول الليبي السابق الخروج في هذا الظرف بالذات، ومن أمره بذلك؟ ألا تدخل برمجة هذه الخرجة التضليلية، في سياق سعي جهات معروفة، لبلوغ مصالحها في الملف الليبي وفي قضية الصحراء المغربية، عبر ترويج البهتان والزور، ثم تصنع له قيمة إعلامية بقصد توظيفه من طرف قوى الشر التي يمولها النظام الحاكم في الدولة الجار ؟؟

ما هي دلالات استعمال منصة قناة “فرنسا 24” بالتحديد، لإطلاق افتراء لم يسبق أن قال به أحد قبل اليوم ؟؟ وما هي الرسالة التي يحملها استمرار خروج أصوات البهتان من قلب العاصمة الفرنسية ؟؟

 

في تفاعله مع مذكرات عبد السلام جلود، يقول الصحفي حسان الزين، في مقال بعنوان “قصة انقلاب عبد السلام جلود على معمر القذافي”، نشره بجريدة “الأندبندنت العربية The Independent”، بتاريخ الأربعاء 20 أبريل 2022 : (بعد ربع قرن من الشراكة في الحكم، ومن موقع الرجل الثاني، لا يقرأ جلود تجربته نقدياً، بل يغسل يديه من الأخطاء كلها ويضعها على عاتق “الطاغية” وأزلامه. ولا ينفصل هذا عن تقديم جلود نفسه نقيضاً للقذافي، فهو ثوري وإصلاحي، بينما القذافي “طاغية” وتدميري؛ وهو “أي جلود” مع ثورة الشعب، بينما القذافي مع العسكرة؛ وهو شعبي بينما القذافي يكره الشعب ويحتقره ويريد استبداله بأشخاص مرتزقة لا يكونون مجتمعاً ولا يشكلون خطراً عليه؛ وهو يرفض قتل المعارضين ورفاق الدرب، بينما القذافي يرسل رجاله وراء هؤلاء؛ وهو “ناكر للذات” بينما القذافي “شخص مريض”؛ وهو من يستقيل بينما القذافي يتصل به ليعيده؛ وهو مبادر ونشط على الصعيد الخارجي والدولي بينما القذافي في خيمته يحيك المؤامرات لتثبيت سلطته… إلخ. وإضافة إلى هاجس تبرئة الذات الذي يحكم المذكرات، يعاني السرد من مشكلة أنه لا صوت يعلو فوق صوت الذات. فعبد السلام جلود يروي الأحداث كما رآها وعاشها هو، بل كما بات يتذكرها ويتخيلها ويتصورها. والمحور دائماً هو ذاته. فلا يعود إلى مرجع أو أرشيف أو رواية أخرى لشخص آخر. ما يُضعف النص وصدقيته، خصوصاً أن أحداثاً عديدة فيه لم تُفحص وتُدقق. فمثلاً، في مذكراته عن حرب لبنان تتشوش التواريخ والأزمان والأحداث على جلود. ويروي أنه اجتمع بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان في 1982 بكمال جنبلاط الذي اغتيل في 1977. “صفحة 158”).

لن أزيد على كلام الصحفي حسان الزين، شيئا: عبد السلام جلود ليس شخصا يمكن الوثوق بكلامه، لأنه لا يحتمل أي صدقية أو موضوعية.

الحكاية أننا بصدد حرب عصابات إعلامية، لها أبعاد جيوستراتيجية خطيرة، تحركها شبكة تآمر حقيقي يحاول أن يمسك بخيوطها، تحالف مصلحي اقتصادي واستخباراتي، تتلاقى فيه طموحات دولة “شقيقة” مع جشع استعماري لدولة “صديقة”. الأولى تحمل عداء كبيرا للمغرب وتريد تشتيت وحدته الترابية بأية طريقة كانت، والثانية تريد إعاقة أي مسار تنموي جديد يخرج به المغرب من عباءة التبعية الاقتصادية، ولا تخفي تضايقها من إصرار المملكة على سيادتها وحقها في بناء تحالفات دولية وشراكات اقتصادية على أساس تقدير المغرب لمصالحه. ومن دون شك، تريد الأطراف المتحالفة ضد بلادنا، إجبار المغرب على التراجع عن طموحاته الاقتصادية التنافسية، سواء في القارة الإفريقية أو خارجها، وتريده أن يوقف نهج التعاون جنوب – جنوب الذي يصر عليه بشكل يزعج آلة الاستغلال الاقتصادي التي تريد الاستمرار في نهب ثروات بلدان إفريقية استعمرتها سابقا

بالتأكيد أن خيوط التآمر ضد بلادنا ممتدة وتتحرك في سياق تحالفات موسعة مع أطراف مختلفة، ومع قوى إقليمية بعيدة جغرافيا عن المنطقة المغاربية، بعضها يسعى لوضع قدمه في ملفات جيوسياسية جهوية، كالملف الليبي، وبعضها غاضب من بلادنا بسبب مواقف سيادية أربكت حسابات بعض الأطراف ومصالحها الخاصة. وفي رأيي، أعداءنا بصدد المرور نحو مرحلة نوعية قد تعرف أشكالا غير مسبوقة من الضرب تحت الحزام، بشكل لا أخلاقي يعتمد على نشر التضليل والكذب على الأحياء وعلى الأموات، بغرض إحداث البلبلة وشحن الانفعالات ثم استغلالها في اتجاهات ومسارات تخدم المصالح الاستراتيجية لأعدائنا.

لذلك، أمام دقة الظرف، نحن مطالبون بالتعاطي مع المخاطر المستجدة بأعلى درجات اليقظة الاستراتيجية، وتعزيز روح التعبئة الوطنية والالتحام بثوابت الأمة المغربية، وتقوية الجبهة الداخلية عبر خطوات تعزز أجواء الثقة في تفاصيل تدبير شؤوننا ومشاكلنا، وتنفس الضغط الاجتماعي الذي تسببت فيه أزمة ارتفاع الأسعار وأثرها على الطبقة المتوسطة والضعيفة. ويتعين الإسراع بتطوير استراتيجية التواصل العمومي، وبناءها بمنطق جديد يعتمد بوضوح الخطاب الوطني المستند على الهوية المغربية ونهج الاحترافية والمهنية والكفاءة، للتصدي بفعالية للحرب الإعلامية الشرسة التي تشن ضد وطننا، والوقوف، مؤسساتيا وشعبيا، في وجه ما تحيكه قوى الشر التي تخطط لإيذائنا بمصائب لا يعلم مداها إلا الله وحده.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News