موقف

النقاز يرفض التجنِّي على الحكومة وتحميلها مسؤولية إلتهاب المحرُوقات

النقاز يرفض التجنِّي على الحكومة وتحميلها مسؤولية إلتهاب المحرُوقات

لا حديث في كل بلدان المعمور، ومنها المغرب إلا عن ارتفاع غير مسبوق لأثمنة المواد الطاقية التي فرضت ضغط قاسي على ميزانيات الدول والأفراد بشكل غير مسبوق.

غير أن الملُاحظ والمُراقب للنقاش العمومي الوطني يجد أن هناك تجنِّي على الحكومة الحالية في محاولة لتحميلها المسؤولية السياسية قفزًا على معطيات الوقع الاقتصادي والجيوسياسي الدولي التي تفرض لُغتها دون اعتبار للأثار الجانبية على معِيشة الشعوب.

ولفهم هذا الوضع المعقد، نقترح في هذا المقال المطول محاولة لفهم خلفيات إرتفاع أسعار المحروقات ببلادنا وإرتباط ذلك بالنسق العالمي. فنحن كما قال المنظرون للعولمة نعيش في قرية واحدة، وفي ترابط غير مسبوق في تاريخ البشرية.

  • الحرب الروسية الأكرانية والنظام العالمي الجديد

الحكمُ على الشيء فرع من تَصوُّره، تلك إذن القاعدة الفقهية التي قامت على أساس إعمال العقل في الخبر كما قال ابن خلدون، هذا المنفذ النظري هو الذي نسعى من خلاله الى مقاربة موضوع له تأثير بالغ على حياة ملايير البشر في العالم دون تمييز على أساس اللون أو العرق أو الجغرافيا. إنه موضوع الحرب الروسية الأوكرانية وتأثيراتها المباشرة على السياسة والاقتصاد في العالم.

والجميع، وبفعل سطوة الاعلام خصوصا شبكات التواصل الاجتماعي، لا يرى من الجليد الى الجزء الظاهر منه، أي غلاء المواد الأولية والتهاب أسعار المحروقات والمواد الأولية وإفلاس الدول.

وهذا طبيعي فالمواطن لا يهمه التقلُّبات الجيوسياسية ولا صراعات القوى العالمية ولا سَعيُها الحثيث الى تملك منابع القوة والثروة. بقدر ما يهمه التحكم في ميزانيته الصغيرة وضمان تحقيق توازن بين الدخل والإنفاق.

وليغفر لنا المتفائلون أن نقول بأن ما نعيشه اليوم هو أزمات مُزمنة وليس أزمة عابرة، بمعنى أن الغزو الروسي لأوكرانيا ليس موقف نزقي من بلد كبير كروسيا متمرس في الحروب مند عقود، ويعي جيداً حجم التكاليف الاقتصادية والسياسية التي تُخَلفُها حرب من هذا النوع.

فمباشرة بعد إعلان الحرب كاد الروبل الروسي أن ينهار لولا أن تم إنقاذه من طرف مديرة البنك المركزي الروسي إلفيرا نابيولينا  التي اتخذت قرار فرض أداء ثمن الغاز المُصدَّر الى أوروبا بالروبل ليس الدولار.

هذا دون الحديث عن التكاليف اليومية للغزو والتي تشيرُ التقديرات الأولية أنها فاقت الى غاية اليوم أكثر من 60 مليار دولار، زيد على ذلك خسائر في أرواح الجنود من كل الرتب، وضحايا مدنيين ليس لهم لا في العير ولا في النفير.

لكن السؤال الذي يُؤرّق الجميع، ما الذي حدا بفلاديمير بوتين بخطو هذه الخطوة التي حتما مَداها وأُفقها النهائي هو تشكيل نظام عالمي جديد على أنقاض النظام الذي انهار تماما بفعل جائحة كوفيد 19.

ما سوف يزيد الطين بلَّة، هو ورُود تقارير شبه مُؤكدة عن نية روسيا غزو بولندا، البلد صاحب حلف وارسو الذي تأسس سنة 1955، هذه الاخيرة منحت أوكرانيا دعماً قوياً خلال الحرب وفتحت الحدود لفائدة 2 مليون لاجئ.

بل تحولت بولندا الى قاعدة خلفية للدعم الغربي غير المباشر لأوكرانيا عبر توفير معابر برية لنقل الغداء والسلاح بل حتى السماح بدخول المتطوعين للقتال، الممارسات التي تعتبرها روسيا دعم للجبهة الاكرانية وتحدي صريح لها.

العداوة ما بين بولندا وروسيا قديمة قدم الزمن، فقد إحتلت بولندا موسكو في القرن السادس عشر، لتعود روسيا القيصرية لاحتلال وارسو سنة 1798، وبعد إنهيار الاتحاد السوفياتي يمَمت بولندا وجهها شطر الغرب عبر الانضمام الى خلف الناتو الذي كان القشة التي قصمت ظهر البعير ، وهذا ما يفسر امتناع بولندا وبلغاريا عن أداء أثمنة الغاز الروسي اللتان تعتمدان عليه بشكل كامل بالروبل ،  وكان جواب روسيا الحاسم هو قطع الامدادات فورًا.

وهذا يعني توقف شريان الطاقة في المنازل والمصانع ومقدمة لحرب قادمة في الأفُق خصوصا بعد أن استعملت بولندا ورقة استعدادها لاستقبال قنابل نووية لتخزينها على أراضيها مما يشكل تحدى مباشر للأمن القومي الروسي.

اذا تحقق قرار غزو بولندا فنحن نمضي رأسا الى سيناريو كارثي، فبولندا عضو في حلف الناتو وتعرضها الى هجوم روسي محتمل يعني دخول الخلف إلى الحرب للدفاع عنها، ودخول بلاروسيا كذلك للحرب بحكم أنها نقطة عبور الجيش الروسي الى الاراضي البولندية مما يجعلنا أمام حرب عالمية ثالثة.

  1. الغاز الطبيعي السلاح الجديد في الحروب

الغاز الطبيعي هو عنوان الأزمة العالمية الحالية، ولا يمكن فهم ما يقع دون معرفة خبايا الحرب العالمية الخفيّة حول امتلاك هذا المصدر المستقبلي للطاقة.

فكل التوقعات تشير الا أن القرن الواحد والعشرين هو القرن الذهبي لتجارة الغاز الطبيعي و أنه سوف يزيح النفط من عرش الطاقة.

واقعيا روسيا وأميركا يحوزان أكبر احتياطي للغاز بالإضافة الى قطر وإيران، وخلال العشر سنوات الماضية تضاعف حجم استعمال الغاز في الاقتصاد الأمريكي حتى فاق حجم الإنتاج، بينما تبقى أوروبا معتمدة على الغاز الروسي بحوالي 60 بالمائة من احتياجاتها، وتتحكم روسيا في الامن الطاقي الأوروبي عبر 6 انابيب توريد، صنبورها موجود في يد بوتين في كرملين.

منذ سنة 2012 بادرت ألمانيا أكبر مستهلك للغاز في أوربا الى تنويع مصادر طاقتها عبر الانفتاح على الغاز الطبيعي المُسال، لكن تكاليف شحنه ونقله تبقى كبيرة، كما أنها حاولت الاستفادة من غاز بحر الشمال القادم من النرويج وبريطانيا، وغاز شرق المتوسط المكتشف حديثا في مصر وليبيا وإسرائيل.

التحركات التي اقلقت روسيا مخاَفة فُقدانها السيادة الطاقية على أوروبا وكذلك مخافة تراجع عائدات الغاز الذي يشكل 30 بالمائة من عائدات الميزانية الروسية، وهذا ما يفسر التدخل الروسي المباشر في بلدان القوقاز خصوصا أوزبكستان الغنية بالغاز، والتدخل العسكري في سوريا وليبيا والتنسيق المستمر مع إيران والجزائر لمحاصرة التوجهات الألمانية التي تبقى أمالها متعلقة بخط أنبوب الغاز المغربي/ النيجري الذي هو الشريان القادم من عمق إفريقيا لإنقاذ أوروبا.

يعني نحن أمام حرب تكسير عظام اقتصادية تلبس لبُوس سياسي وعسكري، ولطالما كانت الحروب من أجل الموارد والمال.

إن روسيا تقول بطريقة غير مباشرة: لن أقبل أن أتزعزع عن مكاني في التحكم في التجارة العالمية للغاز، خصوصا المُصدَّر لأوروبا الذي يمنحها أوراق في مواجهة الاتحاد الأوربي و مخاطر حلف الناتو العدو القريب لروسيا والذي يلعب دور الحراسة لصالح العدو البعيد، أي الولايات المتحدة الأمريكية.

أسعار المحروقات في المغرب … تحصيل حاصل

الآن نعود الى تأثير كل هذا على المغرب خصوصا في ملف ارتفاع أسعار المحروقات التي تخلقُ ضغط حقيقي على ميزانية الاسر والدولة في نفس الوقت.

أولا ثمن برميل النفط مند نهاية السنة الماضية لم ينزل على سقف 100 دولار للبرميل وهي سابقة في التاريخ.

ثانيا هنا لا نسعى هنا لمواجهة تَقوُّلات سياسية تحاول إلصاق تهمة غلاء أسعار المحروقات بالحكومة كمحاولة سياسية ذات أهداف انتخابية للنيّل من رئيس الحكومة عبر تسويق فكرة مغلوطة أنه يرعى مصالح شركات المحروقات ضدً على مصالح المواطن.

صراحةً هذا الموقف ساذج ولا يرى الى شاشة الأحداث أما مُحركها هو ما بسطناه سالفا، ما يجعل أي دولة في العالم عاجزة أمام هذا الوضع، ناهيك عن بلد مُقدراته الاقتصادية متواضعة كالمغرب.

هناك أصوات تتعالى لمطالبة الحكومة المغربية بدعم المحروقات أو بطريقة أخرى محاصرة الشركات التي توزعها، وهنا العارفون بتركيبة الأسعار يُقرُّون أن سعر الغازوال في روتردام وهو الثمن المرجعي، بلغ في شهر يونيو 12 درهم دون احتساب تكاليف الشحن والتخزين والضريبة وهامش الربح، وبالتالي طبعيي أن نجده في المغرب ب 17 درهم.

طبعا هذه الحقيقة لا نقبلها نحن كمستهلكين لأنها أقوى من قُدراتنا المادية، ولكن هذا هو الواقع الذي لا يرتفع كما يقول الفلاسفة.

تلك الأصوب المطالبة بتدخل الحكومة تنادي بالدعم دون تحديد كيفياته ولا تطبيقاته الاقتصادية، لذا نبسط هذه المعطيات لفهم الوضعية.

ميزانية المغرب تبلغ 519 مليار درهم ، توقعات الإيرادات فيها تبلغ 460 مليار، يعني هناك عجز مند البداية حسب قانون المالية 2022.

نفقات صندوق المقاصة رُصد لها 16 مليار درهم لكن مع تفشي الأزمة وحرصا على استقرار أسعار المواد المُدعَّمة مثل الغاز وغازوال المهنيين، والسكر والدقيق والكهرباء سوف تصل الى 32 مليار درهم مع نهاية السنة الحالية.

وإذا افترضنا أن الحكومة لها إمكانية تقديم دعم مباشر للمواطن في موضوع المحروقات فليس لها من صيغة الا الصيغة الاتية:

في المغرب هناك حوالي 4.5 عربة تنقسم ما بين 3 مليون سيارة شخصية و1.5 عربة تجارية، وحوالي 250 ألف دراجة نارية. لنفترض أن الحكومة قررت تخصيص دعم مباشر بقيمة 300 درهم لكل عربة في الشهر، فهذا يعني 10 مليار درهم على الأقل في كل شهر، ومع متم نهاية السنة سنكون أمام 50 مليار درهم هي تكلفة هذا الدعم نضيف عليها 32 مليار درهم، فتكون المُحصلة حوالي 82 مليار درهم ، يعني % 20 من ميزانية البلاد وبالتالي التوقف عن القيام بأي إصلاحات في القطاعات الكبرى أي الصحة والتعليم والتشغيل والحماية الاجتماعية.

هناك حديث عن تعطيل مؤقت للضريبة على المحروقات، والنتيجة هو نقص الايرادات التي هي أصلا في حالة عجز.

هذه هي التوازنات الماكر واقتصادية التي تجعلنا نفهم ما يقع، وتمكننا من فهم جهود الدولة وعمل الحكومة حتى لا تنهار البلاد كما وقع وما يقع لبلدان عديدة مثل اليونان ولبنان وسيريلانكا.

على المغاربة جميعا أن يعوا خصوصية ودقة وخُطورة المرحلة، وعلى الجهات التي تروج الوهم أن تعي خطورة أفعالها، فالوضع لا يحمل تضليل ولا لعب على الوثر الحساس خصوصا أن التقاليد السياسية للدولة المغرب معروف عليها تحقيق التكامل ما بين مطالب المواطن وتماسك الدولة، وهذا هو التحدي المطروح اليوم أمام حكومة عزيز اخنوش.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News