رأي

فلسفة الاختراق في الخطاب الدبلوماسي المغربي

فلسفة الاختراق في الخطاب الدبلوماسي المغربي

فلسفة الاختراق في الخطاب الدبلوماسي المغربي

حكامة المرافعة في قضية الوحدة الترابية للمملكة  نموذجا .

    يكتسي موضوع الخطاب الديبلوماسي مكانة هامة في العلاقات الدولية  ببعده السياسي الحاسم في اتخاد القرار من جهة،  وبامتداداته الجيوستراتيجية الشاملة من جهة ثانية . وهو منتوج ثقافي بامتياز،  يخضع بشكل مباشر لجملة من الشروط المادية والرمزية المحددة لأنماطه والمؤطرة لإنتاجه ،من خلال أجندة سياسية ورؤية استراتيجية ومشروع أخلاقي للدولة. وعلى هذا الأساس يمكن اعتبار الخطاب في المكون الدبلوماسي  فلسفة تقوم على الفاعلية في الإقناع، وعلى النسق المدعم بالحجج الدامغة، وعلى المناورة الذكية المدروسة، وعلى طول النفس والمدى البعيد، والقصد هو الاختراق الذكي للآخر وتحصين المكتسبات، وإقناع المعارضين بقوة الدليل والبرهان، والتوظيف الأمثل لكل الأدوات والامكانات في التوقيت والمكان المناسبين.

ومن المعلوم أن مفهوم الخطاب بصفة عامة يقوم على أربعة أسس هيكلية وهي الواقعية،  والتفاعلية، والسياقية، والتناص، وهي نفس الأسس التي تحدد طبيعة الخطاب عندما يقترن بالبعد الدبلوماسي، الذي يميزه  بمجموعة من الهياكل والإجراءات “الدبلوماسية” المتعارف عليها في القانون الدولي والعلاقات الدولية، وبذلك يقدم الخطاب الدبلوماسي نفسه على أنه فن تدبير الحدث والوقائع الجيوستراتيجية بالحكامة اللازمة والتفاصيل الدقيقة والكارزما السيادية المطلوبة للدولة .

ومما لا شك فيه أن العلاقات الجيوسياسية الدولية ظلت باستمرار تتسم بالتدافع الاستراتيجي لضمان المصالح وتثبيت التموقع والرفع من منسوب التنافسية في كل المجالات، بعمق معقد ومتشابك ومتغير باستمرار، وبدينامية قوية على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والقيمي الثقافي… الخ.  هذا التدافع يشكل المحدد الرئيسي لطبيعة العلاقات الدولية، سواء على المدى القصير أو المتوسط أو البعيد، مما يجعل الخطاب الدبلوماسي حاضرا في الحدث،  ومحددا إديولوجيا وسياسيا للقرار ، وفي نفس الوقت يشكل رهانا استراتيجيا على أعلى درجة من الخطورة والحساسية، على اعتبار أن هامش الخطأ فيه مكلف جدا على المستوى الجيوستراتيجي للبلد .

إن ما يقع من أحداث وتطورات متلاحقة في مختلف مناطق العالم حاليا  – الولايات المتحدة الامريكية وروسيا وأروبا والصين والشرق الأوسط وأوكرانيا وإفريقيا … الخ- إضافة إلى الصراع والتنافسية القوية  بين القوى والتكتلات العظمى…. الخ، له أثر بالغ في القرار السياسي المتخذ وفي درجة السيادة في اتخاده ، في سياق يتميز بتداعيات و انعكاسات وباء كوفيد 19 الذي أدى إلى تباطؤ اقتصادي واضح على مستوى العالم، وخلخل التوازنات الماكرو- اقتصادية القائمة ، وتسبب في تشبيك جديد للمصالح الدولية، وجعل كل دول العالم تعيد ترتيب أولوياتها حفاظا على مصالحها الاستراتيجية، كما أعاد مفهوم الأمن الاستراتيجي للدولة بقوة ، وأثر بشكل بارز في مختلف القضايا الدولية بكل مقاييسها وأهميتها الجيوستراتيجية.

وباعتبارها قضية كل المغاربة ومشكلا مفتعلا من طرف خصوم الوحدة الترابية للمغرب، فإن قضية   الصحراء المغربية واستكمال الوحدة الترابية للمملكة، ستخضع لنفس المنطق الجيوستراتيجي  العالمي هذا ، سواء من حيث القرارات المتخذة أو من حيث المؤثرين فيها . وعليه، فإن الترافع عن قضية الصحراء المغربية لم ينفصل عن السياقات الجيوسياسية الإقليمية والدولية السائدة ، وتطلب حكامة دبلوماسية براكماتية ذكية سياسيا واستراتيجيا، وسنحاول في مقالنا هذا مقاربة نموذج الاختراق الذي ميز الخطاب الدبلوماسي المغربي وبرع فيه ، ليصبح نموذجا في حكامة الترافع حول القضايا الاستراتيجية والمصالح الوطنية .

– حكامة المرافعة في بنية الخطاب الديبلوماسي المغربي :

يعتبر مفهوم حكامة الترافع كخطاب ديبلوماسي في العلاقات الدولية  مفهوما متجددا باستمرار وموضوعا من المواضيع التي أصبحت تحظى باهتمام متزايد من طرف مختلف مكونات المجتمع ، من دولة ومؤسسات وفاعلين سياسيين واقتصاديين ورياضيين وجمعيات المجتمع المدني … الخ، سواء على المستوى المركزي أو المحلي، باعتبارها الإطار الفعال لبلورة استراتيجية متكاملة وفعالة وتشاركية، هدفها الدفاع عن مصالح البلد ومكانته وتنافسيته ووحدته الترابية في مختلف المحافل الدولية، والتصدي بكل حزم لكل من يعادي  هذه المصالح.

إن التوجه الجديد للدبلوماسية المغربية  الذي ما فتئت تكرسه الدبلوماسية الملكية، تمكن من تحقيق اختراقات وانتصارات قوية في ملف الصحراء المغربية ، وجعل من المغرب قوة ديبلوماسية وازنة على الصعيد الإقليمي والدولي. والملاحظ هو أن النهج  الدبلوماسي المغربي  تغير بشكل كبير ولافت ومثير للاهتمام منذ 2016، فدقة الخرجات الدبلوماسية التي أضحت دقيقة في الزمان والمكان، بمنسوب قوي من الوضوح والحزم والصرامة والنضج السياسي، أثارت انتباه الخبراء في المجال الجيوستراتيجي، وتعددت معه القراءات السياسية والتحاليل المعقدة للفكر الديبلوماسي الذي أصبح يتبناه المغرب. ومنذ خطاب صاحب الجلالة بمناسبة الذكرى 17 لجلوسه على العرش في 31 يوليوز 2016 ، رسمت بشكل واضح معالم الفكر الدبلوماسي للمغرب الجديد من خلال اعتماد  دبلوماسية حازمة ، كرهان حقيقي وناجع للدفاع عن مصالح المغرب، ليس بالقول فقط ولكن بالممارسة الواقعية.

لقد شكل خطاب جلالة الملك خارطة طريق لكل أشكال الدبلوماسية المغربية رسمية كانت أو موازية، اتضحت معالمها بشكل بارز في الدفاع عن القضية الوطنية، والوقوف بحزم أمام خصوم المغرب والدفاع عن مصالحه الاستراتيجية، واعتماد سياسة الاختراق المدروس المبني على الديبلوماسية الناعمة والامتداد الاقتصادي والرزانة السياسية البراكماتية، رزانة المغرب كدولة بعمقها التاريخي المتجذر وقوتها الروحية النافذة، هذا التوجه تأكد خلال الأزمات التي مر منها المغرب مؤخرا بداية بأزمة معبر الكركرات والأزمة مع ألمانيا القوة الاقتصادية الأولى بالاتحاد الأوروبي ، ومع إسبانيا الجارة الشمالية وأول شريك اقتصادي للمغرب بالاتحاد الأوروبي، ومع الاتحاد الأوروبي نفسه  الذي تماهت قرارته في بعض الأحيان مع خصوم الوحدة الترابية ، دون إغفال استمالة أقوى اقتصاد في العالم للاعتراف بسيادة المغرب على صحرائه، وفتح العديد من القنصليات الدبلوماسية بكل من الداخلة والعيون، وإبراز المبادرة المغربية للحكم الذاتي بالأقاليم الجنوبية كمبادرة واقعية وذات مصداقية وقابلة للتطبيق. هي انتصارات أكدت قوة المغرب الديبلوماسية ممارسة وإدراكا من خلال احترافية نموذجه وتميزه اقليميا وعالميا .

– الممارسة الدبلوماسية

تفكيك مصطلح الممارسة الدبلوماسية يحيلنا إلى العديد من النماذج المتعارف عليها اجتماعيا وسياسيا  وقانونيا وثقافيا، والتي تعني في كنهها رعاية المصالح الوطنية للبلد في الحرب والسلم، وممارسة القانون الدولي العام، وفن إجراء المفاوضات السياسية وغير السياسية، على أن ذلك يرتبط بشكل أساسي بعدة محددات وازنة، وهي السياق المكاني والزمني، ونسق التعامل مع الحدث وتعقيداته، ثم آليات تنفيذ السياسة الخارجية. هذه المحددات ليست ثابتة ، بل على العكس من ذلك نجدها دائمة التغير والتحول، لتشكل في نفس الوقت شرطا ونتيجة لأي شكل من أشكال العمل الديبلوماسي في عمقه القانوني وأبعاده الاستراتيجية ، فما هي القراءات الممكنة للديبلوماسية المغربية الراهنة، على ضوء الأحداث والوقائع المتلاحقة الخاصة بقضية الصحراء المغربية ؟

يشكل القرار الدبلوماسي المتخذ في التوقيت المناسب وبالقوة والنجاعة اللازمة ، مؤشرا هاما لمستوى المكانة الجيوستراتيجية للبلد ولمكانته الاعتبارية، ونجاعة منظومته في السياسة الخارجية، وقوة جهازه المخابراتي وكفاءته، ومن الواضح أن القرارات التي اتخذها المغرب في المجال الدبلوماسي خلال السنوات الأخيرة على مختلف الجبهات، تؤرخ لبداية مرحلة جديدة، مرحلة مغرب اليوم، المتميز بقوة سياسية ونضج براكماتي في اتخاذ القرار في الوقت الذي يراه مناسبا ومع أي كان، وهو ما أثار العديد من التساؤلات لدى المتخصصين في العلاقات الدولية والخبراء في الخطاب السياسي والديبلوماسي، فهناك من يصنف هذا ضمن العلاقات الاستراتيجية التي ترتبط بالظرفية الدولية، وما أفرزته العولمة في إطار إعادة توزيع الأوراق بين الدول العظمى، وانعكاسات ذلك على بنية القرار السياسي في جوهره وعلى صيغته الدبلوماسية المتخذة، فصراع الكبار يحدد مسافة اللعب  – الولايات المتحدة الأمريكية والصين وروسيا والاتحاد الأوروبي … الخ -، ويصبح معها القرار السياسي المتخذ في مختلف القضايا عبارة عن تحدي ورهان بقدر كبير من الحساسية والذكاء، وهذا ما تميز به المغرب بشكل ملفت. وهناك طرف آخر يؤكد على دور الجدل الجيو- سياسي الضاغط على طبيعة القرار المتخذ وعلى النموذج الدبلوماسي المعتمد. فإذا لم تكن الدولة  كيفما كانت مرتبتها ومكانتها قادرة على تصريف الضغط السياسي وحدة المنافسة بكل أشكالها، فلن تتمكن من طرح رأيها والدفاع عن مصالحها، وبذلك تتأكد مقولة “لا أصدقاء دائمون ولا أعداء دائمون بل مصالح دائمة” والتي أصبحت أكثر بروزا وبراكماتية ، وأكثر ممارسة في العلاقات الدولية في كل أنحاء العالم.  وهناك من يؤكد أن نموذج  الاختراق الدبلوماسي بقوة القرار وبالحزم الذي يجب أن يكون عليه  بغض النظر عن طبيعة الخصم وقوته، يؤشر على أن الدولة بلغت عمقا استراتيجيا، وقوة بنيوية في مكوناتها السياسية، وفي منظومتها المخابراتية، وتوازنا براكماتيا في علاقاتها الدولية، وهذا يمنحها المشروعية والحماية وهامش واسع من التصرف في إطار بعد سيادي جيواستراتيجي واضح، خاصة وأن البحر الأبيض المتوسط بضفتيه الشمالية والجنوبية وكذا منطقة الشرق الأوسط ومنطقة الساحل، تعتبر  ضمن المناطق الحساسة جدا من الناحية الجيوستراتيجية .

– الرأسمال الاجتماعي وشرعية الحكامة الترافعية والدبلوماسية .

هناك العديد من المساهمات النظرية في ما يتعلق بعلاقة الحكامة الترافعية والدبلوماسية، بالرأسمال الاجتماعي على مستوى التنمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والترابية…. الخ، وخاصة علم النفس الاجتماعي، Hewitt de Alcantra , 1998 et Levesque et White 1999.  وحسب  Putnam 1993  فإن تطور المجتمع يرتبط بشكل عضوي بطبيعة الرأسمال الاجتماعي وببنية هذا الأخير، فعندما تضعف الشبكات الاجتماعية والمعايير الموظفة والقيم والعلاقات السائدة والشعور بالانتماء ، فإن مجمل التدخلات والأنشطة الجماعية تصبح هشة وضعيفة والعكس صحيح . ولما كان الفكر الدبلوماسي في أساسه فن ربط العلاقات وممارستها، وتصريف مختلف أشكال الضغط والصراع وتحقيق الاختراق والاقناع  ، فإن الدبلوماسيات الموازية بكل أشكالها  ونماذجها تصبح من أهم مكونات الرأسمال الاجتماعي للبلد، والمحرك الأساس للحكامة على مستوى الترافع في القضايا الهامة والاستراتيجية . على أن هاته الدبلوماسيات الموازية متعددة ومتغيرة ارتباطا بالسياقات والتحولات الدولية المرتبطة بالتطور التكنولوجي  وتعميم النموذج الرقمي والتماهي مع عولمة اكتسحت كل المجالات . وهكذا نجد الدبلوماسية السياسية والحزبية والنقابية والاقتصادية والرياضية  والثقافية  و الرقمية و الجمعوية …. الخ .

إن الوضع الراهن والتطورات التي عرفها ملف الصحراء المغربية خلال السنوات الأخيرة ، والدور الهام والمحوري للدبلوماسية الملكية في التصدي لخصوم الوحدة الترابية للمملكة ، قد أعطى  زخما وشحنة فعالة لكل الدبلوماسيات الموازية لكي تشتغل كل من موقعها على هذا الملف . وهكذا أصبح الرأسمال البشري يترافع في كل المحافل من أجل قضيتنا العادلة بمنسوب كبير من الشرعية والمصداقية ، وأصبحت من التدابير الفعالة والذكية والوازنة في ضمان المصالح الاقتصادية والاجتماعية  والثقافية والجيوستراتيجية للبلاد . وقد حتم السياق الحالي، إقليميا ودوليا ، تبني مفهوم جديد للمرافعة من أجل القضية الوطنية ،على اعتبار أن خصوم وحدتنا الترابية  لا يتأخرون في توظيف كل الأدوات غير المشروعة والماكرة لكي يغالطوا الرأي العام الدولي في مختلف الهيئات الدولية والمنظمات غير الحكومية وجمعيات المجتمع المدني.

عناصر الحكامة الترافعية :

أ – التوظيف:

و هنا يمكن استحضار قولة للحسن الثاني رحمه الله والتي كان يرددها دائما ” اللباقة و اللياقة والموضوعية ” بمعنى أن كل من يتحمل مسؤولية دبلوماسية في المغرب ليس السفير والقنصل فقط  بل كل مكونات الديبلوماسيات الموازية التي سبق ذكرها ، عليه أن يتوخى روح هاته المقولة في دفاعة ومرافعته على قضايا بلده وخاصة قضيته الأولى الصحراء المغربية .

 

 

ب – النفاذية :

بمعنى أن تنفذ إلى الآخر ، فلا يمكن أن تنفذ إليه و أنت لا تعتز بمغربيتك و بهويتك و بثقافتك، بالفعل لنا عيوبنا ولنا أخطاؤنا ومشاكلنا و هذا أمر عادي ، و لكن علينا أن نفتخر بهويتنا وشخصيتنا ، وتلكم قوة النفاذ وحكامة الاقناع .

ج – الإقناع :

فليس من السهل إقناع الآخر و لو أنك عادل في قضيتك، وهذا لا يعني أن لا تتوفر على أساليب إقناع الأطراف الأخرى التي تحاول جاهدة أن تتصدى لك بطرق مختلفة، وفن اللإقناع من أهم عناصر المفاوضات والترافع من أجل  التصدي للمغالطات .

إن المغرب وهو يدافع عن مصالحه المشروعة فرض نفسه بحكم نموذجه الدبلوماسي كمفاوض استراتيجي قوي وعتيد، وقزم جاره الشرقي وعزله سياسيا ودبلوماسيا ، وأتبت للعالم أن الدبلوماسية الخاصة هي القادرة على حماية المصالح  الوطنية ، ويكفينا فخرا أن ألمانيا وإسبانيا هرعتا إلى التراجع عن مواقفهما العدائية ضد المغرب والاعتراف بسيادته على سائر أراضيه واعتبار قرار الحكم الذاتي قرارا حكيما. الأمر الذي يثبت من جديد حنكة الدبلوماسية المغربية في تدبير ملف شائك في ظل الظروف الدولية الصعبة وتوجيه صفعات متتالية لكل أعداء الوحدة الترابية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News