رأي

تغيير السياسة الخارجية الإسبانية أهم بكثير من إعفاء وزيرة!

تغيير السياسة الخارجية الإسبانية أهم بكثير من إعفاء وزيرة!

لا شك أن التعديل الحكومي الذي قرّره رئيس الحكومة الإسبانية أمر عادي، أتى ضمن ما يتيحه النسق الديمقراطي المعمول به. وهو شأن داخلي يخص مواطني ذلك البلد أولا. لكن، لأن معطيات الجغرافيا والتاريخ والسياسة تجمعنا في سياق استثنائي، نحن معنيون بتتبع الموضوع والتفاعل مع تفاصيله، في محاولة لقراءة الدلالات والخروج بخلاصات نستشرف بها المستقبل.

ويتعين، بداية، الإشارة إلى أن رئاسة الحكومة الإسبانية برّرت التعديل الوزاري بأمرين اثنين:

-أولهما، الرغبة في ضخ دماء جديدة في دواليب التدبير الحكومي لمحاولة تحسين الأداء الاقتصادي المتراجع تحت ضغط أزمة وباء كورونا.

-وثانيهما، ضرورة تقوية حضور الكوادر التنظيمية والسياسية للحزب الاشتراكي المتزعم للأغلبية، استعدادا للدفاع عن الحصيلة الحكومية في انتخابات 2023.

لكن بتأمل معطيات التعديل، يتبين أن هنالك تبرير ثالث تم تفادي التركيز عليه رسميا رغم أهميته. وعملت مصالح التواصل لدى رئاسة حكومة مدريد على تغييب دلالاته وسط أحاديث عن التبريرات الأخرى. ما أقصده هنا، اضطرار رئيس الحكومة بيدرو سانشيز إلى التخلي عن وزيرته في الخارجية أرانشا كونزاليز، وهي التي كانت أقرب وزرائه سياسيا إليه، بسبب رغبته في إيجاد طريقة لوقف نزيف الأخطاء التي راكمتها الوزيرة خاصة في العلاقة مع المملكة المغربية، التي يريد بيدرو سانشيز أن تعود إلى التوازن الذي كان قبل فضيحة استقبال مجرم الحرب ابراهيم غالي.

لذا، يمكن قراءة التعديل الوزاري على أنه يحمل إرادة إنقاذ سفينة الحكومة الاشتراكية من الغرق في الانتخابات المقبلة، ويحمل، أيضا، قرارا بإبعاد وزيرة أضحت ورقة سياسية وديبلوماسية محروقة، أساء تدبيرها الهاوي إلى علاقة إسبانيا مع جارها الجنوبي.

ويعزز هذا الرأي، كون تغيير وزراء الخارجية لا يتم عندما يكون التعديل الحكومي جزئيا، وتكون له خلفية اقتصادية صرفة، أو يحركه معطى سياسي داخلي، إلا إذا كان وزير الخارجية مرغوبا فيه لشغل منصب أهم في الحكومة أو الدولة، أو تم تسجيل فشله في تدبير ملفات خارجية هامة.

والحالة هذه، أن الوزيرة المقالة ظلت، منذ أسابيع، تجر ذيول الخيبة بشكل أجّج ضدها انتقادات واسعة من كل الأطياف السياسية الإسبانية، التي استنكرت تعمدها منطق الاستفزاز والتحريض على المغرب داخل أروقة مفوضية الاتحاد الأوروبي والبرلمان الأوروبي، وتشكلت قناعة بضرورة تغييرها، دون أن يصل الأمر إلى حد اتخاذ قرار بإعفائها، لأن ذلك كان سيعتبر عقوبة سياسية شخصية لها، واعترافا رسميا من رئيس الحكومة بمسؤولية وزيرته، ومن تم إقراره الضمني بمسؤوليته هو أيضا عن كل ما جرى من أخطاء في العلاقة مع المغرب.

لذلك، انتظر بيدرو سانشيز أول تعديل حكومي ليبعد وزيرته التي أدخلته في لعبة شد الحبل مع الديبلوماسية المغربية، انتهت بفشل ذريع لحكومة مدريد وبأزمة غير مسبوقة بين البلدين.

في رأيي، سيحاول رئيس الحكومة الإسبانية إظهار إعفاء وزيرة الخارجية على أنه يد ممدودة نحو الرباط، لمحاولة إعادة تفعيل التواصل الديبلوماسي مجددا. قد تكون البداية بطلب إسباني برمجة زيارة أولى يقوم بها الوزير الجديد خوسيه مانويل ألباريس إلى المغرب. وفي حالة قبل المغرب برمجة الزيارة، سيكون مثيرا معرفة ما إذا كان المسؤول الإسباني سيحمل معه جديدا يؤكد  أن تغيير وزيرة بوزير لم يكن، فقط، خطوة لتحقيق العودة إلى الوضع الذي كان قبل فضيحة استقبال بن بطوش، وأن حكومة مدريد تفهم أن تلك خطوة غير كافية لتمحو مرارة الخيانات وأثر التطاول وتحريف الحقائق الذي ظهر جليا بمناسبة الأزمة.

صراحة، سيكون خطأ كبيرا في التقدير من طرف جيراننا ألا يكونوا قد فهموا أن المغرب لا تهمه العودة لما كان، بقدر ما يهمه السير نحو أفق جديد يقوم على أساس احترام حقيقي بين دولتين تلتزمان، في السر والعلن، بعدم المساس بالمصالح الوطنية لأي منهما، وأهمها قضية وحدتنا الترابية الوطنية، وسيادتنا على مياهنا الإقليمية الأطلسية والمتوسطية، وكامل تراب وطننا موحدا بصحرائه إلى حدود الكويرة.

لذلك، مهم بالنسبة للسيد خوسيه ألباريس، الذي سكن بيننا في مدينة طنجة ودرس بالمدرسة الأمريكية فيها، أن يستحضر جيدا درجة قدسية قضية الصحراء بالنسبة لكل المغاربة، وأن ينطلق في مقاربته لعلاقة بلدينا، من حقيقة أن تغيير وزيرة الخارجية لا يكفي، كي لا أقول أنه لا يعني لنا شيئا كثيرا، وأن المطلوب منه هو النجاح في تغيير السياسة الخارجية الإسبانية، في اتجاه :

– الابتعاد نهائيا عن كل ما من شأنه التشويش على تدبير ملف الصحراء المغربية؛

– دعم مقترح الحكم الذاتي الذي تقدمت به بلادنا، لحل المشكل المفتعل في الصحراء المغربية؛

– وقف دعم تحركات الانفصاليين ومن يوالونهم؛

– قبول البحث عن صيغة لتسوية إرث استعماري بئيس يتمثل في الاحتلال الإسباني لمدينتي سبتة ومليلية والجزر الجعفرية.

إذا استوعبت إسبانيا هذه المطالب المغربية المشروعة، سيعني ذلك أنها قررت طي صفحة الماضي وبناء شراكة استراتيجية جديدة، وتدشين مرحلة تعاون على قاعدة رابح-رابح، لجعل هذا الجزء من الحوض المتوسطي فضاء للتعاون الاقتصادي والتنمية، وجسر تفاعلٍ حضاري بين الشمال والجنوب، تتكامل فيه الأدوار ويتم التنسيق الإيجابي لحل مشاكل الهجرة ومحاربة شبكات الاتجار في البشر والمخدرات، ومحاربة الإرهاب.

بدون شك، الكرة في ملعب السيد خوسيه ألباريس، الذي عليه تحقيق تحوّل في نهج السياسة الخارجية الإسبانية، من منطلق الوعي بالواقع الجيوستراتيجي الجديد للمنطقة، وضرورة التعاطي مع المغرب كشريك، وتصحيح أخطاء التاريخ كي يسهل الانتقال نحو المستقبل.

إذا نجح الوزير الجديد في هذا المسعى، سنعتبر حينها أن تغيير وزيرة “العبث الديبلوماسي”، لم يكن فقط تغييرا في الأسماء، بل كان خطوة لتدشين مرحلة تطبعها سياسة خارجية إسبانية عقلانية ومتحررة من بقايا التفكير الاستعماري البئيس. وذلك هو الحد الأدنى المطلوب لتجديد الثقة، وتجاوز خيانة ديبلوماسية إسبانيا لقواعد حسن الجوار. أما غير ذلك، سيجعل تعاقب أسماء وزراء الخارجية في إسبانيا، مهما كانت أهميتها واحترامنا المبدئي لها، مجرد تفاصيل ثانوية في صيرورة التاريخ وتفاصيل الجغرافيا.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News