بين غصن السلام وبارود المستوطنين: برقة تُجني الخوف بدل الزيت

مع حلول موسم جني الزيتون هذا العام، غابت الأجواء العائلية وروح التراث عن المشهد في بلدة برقا الفلسطينية شمال الضفة الغربية المحتلة.
فطقوس الفرحة بالموسم المبارك استحالت إلى استنفار يومي، خشية هجمات المستوطنين الإسرائيليين الذين يجوبون المنطقة تحت حماية الجيش الإسرائيلي.
حقول الزيتون كانت تعج بالأغاني والضحكات، واليوم باتت محروسة بالترقب وتخيم عليها مخاوف من اعتداءات المستوطنين، ما حول الموسم من مناسبة جميلة إلى مهمة تأهب يومية من أجل البقاء على الأرض.
حقول تحت المراقبة
ومع هذا القلق الذي يخيم على المكان، يظهر مشهد آخر أكثر حضورا؛ إذ تقف عائلة محمد عبد الرحمن (67 عاما) بين أشجار الزيتون المعمرة في أحد الحقول القريبة من بؤرة استيطانية أقيمت على أراضي البلدة قسرا.
يتحلق أفراد العائلة حول الأشجار في حذر، بينما تبقى الأنظار مشدودة نحو التلة المقابلة، حيث يقف الابن جهاد يراقب حركة المستوطنين بعين لا تغفل للحظة، تحسبا لأي هجوم مفاجئ.
“نخرج ولا نعلم إن كنا سنعود”
عبد الرحمن يقول للأناضول: “نخرج من بيوتنا ولا نعلم إن كنا سنعود سالمين، نعمل في الحقل وأرواحنا على كفوفنا”.
وبرقا محاصرة حاليا بـ 5 بؤر استيطانية وشارع التفافي إسرائيلي أدى إلى مصادرة نحو 90 بالمئة من أراضي البلدة، ولم يتبق للمواطنين سوى مساحات محدودة يمكن الوصول إليها بشق الأنفس، بسبب سياسات إسرائيل الرامية لفرض وقائع استيطانية على الأرض.
ويملك عبد الرحمن ما يقارب 200 دونم (الدونم يعادل ألف متر مربع)، لكن العائلة لا تستطيع دخول سوى 20 دونما فقط، بينما خسروا 40 دونما أخرى بعد تحويلها إلى نطاق استيطاني، حسب قوله.
موسم ضعيف وخطر دائم
يصف عبد الرحمن الموسم الحالي بأنه “الأضعف إنتاجا والأخطر من حيث اعتداءات المستوطنين”، مبينا أنه في أي لحظة قد يتعرض مع عائلته لاعتداء أثناء جني ثمار الزيتون.
وبحسب وزارة الزراعة الفلسطينية يشهد هذا العام واحدا من أضعف مواسم الزيتون في العقود الأخيرة، وتفيد التقديرات الميدانية بأن الإنتاج لا يتجاوز 15 بالمئة من الموسم الطبيعي.
وبلغ إنتاج فلسطين من زيت الزيتون في العام 2024 نحو 27 ألفاً و300 طن، مقارنة بنحو 10 آلاف طن فقط في العام 2023.
ويوضح عبد الرحمن، أنه خلال الجني يقف أحد أفراد العائلة لمراقبة المكان خشية أي اعتداء مفاجئ من المستوطنين الذين يطردون المواطنين ويسرقون المحصول.
ويضيف مستنكرا: “القهر الحقيقي حين ترى أرضك تنهب وتدمر أمام عينيك ولا تستطيع فعل شيء”.
ويشير إلى أن معظم الأشجار معمرة يتجاوز عمرها 500 عام، لكن “الخطر لا يترك لنا فرصة للفرح بمحصولنا”.
خسارة الأرض وما زرع باليد
وعلى بعد أمتار، يقف بركات سعيد (75 عاما) مصدوما أمام أرضه التي زرعها قبل ثلاث سنوات بـ500 شتلة زيتون ولوز وتين، قبل أن يعمد مستوطنون إلى تكسيرها واقتلاعها.
ويصف سعيد تخريب المستوطنين لأرضه بأنه “فعل إجرامي”.
“من تراث إلى موسم دم”
الناشط بمقاومة الاستيطان ليث بركات يؤكد أن برقا خسرت غالبية أراضيها لصالح المستوطنين الذين باتوا يشنون هجمات شبه يومية تشمل إطلاق نار، وحرق أراض ومزارع، والاعتداء على المنازل والمركبات.
يقول: “كان موسم الزيتون في برقا طقسا تراثيا، الآن أصبح موسما دمويا، العائلات تتجنب اصطحاب النساء والأطفال، وتعمل بفريق مراقبة خشية أي هجوم”.
ويوضح بركات أن المستوطنين لا يكتفون بالسرقة والطرد، بل يعملون على تطهير المناطق التي يسيطرون عليها من الوجود الفلسطيني، عبر قطع أشجار زيتون معمرة تعود جذورها لأكثر من خمسة قرون.
ويشير إلى أن مساحة أراضي برقا تبلغ نحو 20 ألف دونم، لم يبق منها بأيدي السكان سوى أقل من 500 دونم قابلة للوصول.
في المقابل، وصفت هيئة مقاومة الجدار والاستيطان الفلسطينية، التي تنفذ حملات شعبية بمشاركة متضامنين أجانب، موسم جني الزيتون هذا العام بأنه “الأخطر منذ عقود”، مؤكدة أن المزارعين يواجهون اعتداءات يومية مع غياب الحماية.
كما تسببت اعتداءات الجيش الإسرائيلي والمستوطنين باقتلاع وتحطيم وتضرر ما مجموعه 48 ألفا و728 شجرة، منها 37 ألفا و237 شجرة زيتون، بحسب الهيئة.
ووفق معطيات الهيئة، نفذ المستوطنون 7 آلاف و154 اعتداء ضد الفلسطينيين وممتلكاتهم بالضفة الغربية في عامي الإبادة، “تسببت باستشهاد 33 مواطنا (..) وتهجير 33 تجمعا بدويا فلسطينيا”.
وبدأت إسرائيل في 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 إبادة جماعية بقطاع غزة استمرت سنتين، خلّفت 67 ألفا و967 فلسطينيا، وأصابت 170 ألفًا و179 آخرين معظمهم أطفال ونساء، وتجويعا أزهق أرواح 463 فلسطينيا بينهم 157 طفلا.
وبموازاة الإبادة بغزة، قتل الجيش الإسرائيلي ومستوطنون بالضفة، بما فيها القدس الشرقية، ما لا يقل عن 1052 فلسطينيا، وأصابوا نحو 10 آلاف و300، إضافة لاعتقال أكثر من 20 ألفا بينهم 1600 طفل، بحسب معطيات فلسطينية رسمية.