رأي

ازدواجية الحق والفوضى

ازدواجية الحق والفوضى

التحركات الشبابية التي انطلقت في شوارعنا واستلهمت لغة الاحتجاج من أجيال جديدة كانت في بداياتها صرخة مشروعة أمام تراكم العجز في خدمات الصحة والتعليم وتفاقم البطالة وغلاء الأسعار، إلا أنها بدأت نداءً سلمياً سرعان ما تحول إلى مسرحٍ للفوضى عندما تساهل البعض في قراءته أو قلّل من خطورته. فقد هزّت ليالي بعض المدن أعمال من التخريب وإضرام النيران، بل ومحاولات اقتحام مرافقٍ أمنية ومقار مؤسسات للسلطة المحلية وفروع البنوك ومحلات تجارية، وعند تلك اللحظة لم تعد المعادلة واضحة بين من يسعون إلى تفريغ غضب مشروع بشكل سلمي وحضاري، ومن يخرجون عمدًا للإضرار بالأمن العام وتخريب الممتلكات العامة والخ

إن معادلة الحق في الاحتجاج والالتزام بروح القانون والنظام العام هي معادلة حاسمة لا قبل لها بالتهاون؛ فالدستور يكفل التعبير السلمي، ولكن عندما يتحول التجمع إلى اعتداءٍ على الأشخاص والمرافق ومحاولة الهجوم على مؤسسات الدولة، تفقد المطالب شرعيتها الأخلاقية والسياسية وتصبح الدولة ملزمة بحماية المواطنين وضمان الأمن.

ما شهدناه معنا من اشتباكات، أدى، للأسف الشديد، إلى سقوط قتلى وإصابات وعمليات توقيف عديدة، ويفرض مساءلة واضحة ومحاسبة قضائية حازمة لكل من أطلق عنان العنف أو جلب بالمجتمع إلى أتون الهلع والخوف وعدم اليقين. فالفتنة، كما علمنا التاريخ، أشد من القتل ومن يُوقِظها لا يُحمد عقباه.

ولا يجوز لنا الانسياق وراء مقارنات تجتزئ مشاهد قمع هنا أو هناك كتبرير للتساهل أو للإفراط. فالتجربة الدولية في التعامل مع الحشود والاضطرابات عامةً توضح أن الدول التي تحمي الحق المدني لا تردد في فرض النظام حين تهدد التجاوزات أمن الناس وحياتهم. ولنا في أمثلة دولية (فرنسا، ألمانيا، سويسرا، أميركا..) شواهد قوية على أن حماية المصلحة العامة لا تتناقض مع حماية الحريات ما دامت الممارسات داخل الإطار السلمي المنصوص عليه قانونًا.

كما يمكن تجاهل احتمال وجود أيادٍ تعمل على توظيف السخط الاجتماعي لمآرب أخرى خطأ فادحًا؛ فمساحات الفوضى لطالما كانت مجالاً لمن يسعى إلى إضعاف النسيج الوطني أو بث الفتنة. ومن واجب الأجهزة المعنية التحقيق بدقة في مصادر التحريض والشبكات التي استغلت منصات التواصل لتحقيق أهداف لا تمتّ بمصالح المواطن بصلة.

التعامل مع أية محاولات استغلال خارجية يجب أن يكون حازمًا وقويًا في آن واحد حتى لا تتحول الحقيقة إلى مادة للمزايدات أو ذريعة للتشكيك في صدق المطالب الاجتماعية.

أخيرًا، لابد أن نؤكد أننا نريد بلدًا يحتضن الجميع ويصون كرامتهم، وطنًا تُصان فيه الحريات وتُحترم القوانين، وطنًا لا تتحول فيه مطالب الإصلاح إلى منصة للدمار أو ساحة لتصفية الحسابات.

إن الحق في الاحتجاج حق مقدس ومضمن دستوريًا، لكن الضمان الوحيد لاستمراره وحيويته هو احترام حدود القانون والأعراف والسلوك المدني. ومقابل ذلك يجب أن تكون الدولة صارمة في تطبيق القانون على من يخرقونه، مع مراعاة مبادئ العدالة والشفافية؛ لأن التسامح مع التخريب لا يحمي المجتمع ولا يرتقي به، والصرامة في تطبيق القانون مع العدالة هي السبيل الوحيد لاستئناف الحوار البنّاء والإصلاح الجاد.

بكلمة جامعة: من يحمل معول الهدم، ولا يقدر المصلحة العامة، ولا يعير اهتمامًا لاستقرار بلده وسلامة مواطنيه، لا يمكنه، بالبتّ المطلق، أن يدعي النضال من أجل التغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فبالأحرى أن يكون مساهماً فعالاً في دينامياته. فمندروس التاريخ إن السلمية والتحضر خير سلاح لمن يسعى حقًا إلى التغيير والإصلاح.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News