كيف توظّف إسرائيل الخطاب الإعلامي في خدمة أهداف الحرب؟

تعد الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة، منذ 7 أكتوبر 2023، حدثا استثنائيا في سياق تطور القضية الفلسطينية منذ احتلال فلسطين عام 1948، وكذلك جاء الخطاب الإعلامي الإسرائيلي استثنائيا، حيث تجاوز وظيفته الإخبارية.
وقد برز دور هذا الخطاب في الحرب وتطوراتها المختلفة، وشكّل عنصرا مهما في سياق الجهد الحربي لتحقيق الأهداف الإستراتيجية التي انطلقت من أجلها الحرب.
وحول نمط الخطاب الإعلامي الإسرائيلي في الحرب على قطاع غزة وطرق تشكله، نشر مركز الجزيرة للدراسات دراسة إعلامية بعنوان “بنية الخطاب الإعلامي الإسرائيلي والدور الوظيفي في بناء تمثلات الحرب على غزة (2023-2024)” حلل فيها الباحث فريد عبد الفتاح أبو ضهير الأساليب والحجج التي وظفها الإعلام الإسرائيلي لإقناع جمهوره المحلي والعالمي بمشروعية الحرب وأهدافها.
الخطاب والحرب.. مدخل نظري
اعتمدت الدراسة منهج “التحليل النقدي للخطاب” لمقاربة المواد الإعلامية التي تمكّن الباحث من الوصول إليها في صحيفتي “تايمز أوف إسرائيل” و”جيروزاليم بوست”، وانطلقت من المفهوم الذي يحدد الخطاب باستخدام اللغة في السياق الاجتماعي والأيديولوجي والتاريخي.
ويرى عالم دراسات الخطاب توين فان ديك أن النفاذ إلى الخطاب السياسي والإعلامي يعد من أهم الأمور المرتبطة بالخطاب من أجل تحقيق السيطرة.
ويرى الأكاديمي نورمان فاركلوف أن النصوص الخطابية يمكن أن تشعل حروبا، ذلك أن الخطاب يتضمن النص الظاهر والنص المستتر، أي ما تعنيه الكلمات والجُمل للمتلقين، والمعاني التي يحملها المتحدثون لتلك الكلمات والجُمل، ويسعون من خلالها إلى التأثير في عقول المتلقين.
وقدمت الباحثتان أنجيلا هافتي ولورا جوناس في بحثهما إجابة عن دور الإعلام في الإبادة الجماعية في رواندا، وأشارتا إلى أن الأمر يتعلق بالطريقة التي يجري من خلالها التعبير عن التصريحات التي تصدر عن الجهات الرسمية، مثل الإيحاء بالعنف أو الكراهية في الخطاب، بما يخلق حالة ذهنية عامة لدى الجمهور، يكون العنف نتيجة متوقعة لها.
ويمكن إدراك الإطار العام للخطاب الإعلامي الإسرائيلي، والأسس التي قام عليها أيضا نظام الإعلام الإسرائيلي، من خلال رصد عدد من المظاهر التي تكشف تطرفه وانفصامه عن القيم المهنية للعمل الصحفي.
فظهور الصحفي داني كوشمارو على شاشة القناة الـ12 الإسرائيلية حاملا بندقية وظهور المذيعة ليتال شيمش وهي تضع مسدسا خلف ظهرها داخل الأستوديو أثناء تقديمها نشرة الأخبار على القناة الـ14، ومواقف أخرى كثيرة، تؤكد اصطفاف الصحفيين الإسرائيليين إلى جانب المؤسستين السياسية والعسكرية.
وقد تجاوز الأمر منظور التماهي مع هاتين المؤسستين إلى تبني هذا الإعلام منظور حجب صور الدمار والمجازر والدماء والأشلاء في غزة عن الجمهور الإسرائيلي، ويعد ذلك نتيجة حتمية للتطرف الإعلامي الإسرائيلي، ومؤشرا آخر على انخراط الإعلام الإسرائيلي في الحرب على غزة.
استدعاء التاريخ والأيديولوجيا
لقد شكّل هجوم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على المستوطنات الإسرائيلية ومعسكرات الجيش في غلاف غزة في 7 أكتوبر 2023 صدمة عميقة للإسرائيليين، ولجأت وسائل الإعلام الإسرائيلية إلى استدعاء البعد الأيديولوجي التاريخي المتمثل في “العداء للسامية”، لوصم كل من يتهم إسرائيل بارتكاب انتهاكات جسيمة ضد الشعب الفلسطيني.
فقد استخدم موقع “تايمز أوف إسرائيل” أسلوب استدعاء العداء للسامية واستحضار المحرقة (الهولوكوست) التي تعرض لها اليهود في الحرب العالمية الثانية، وكذلك حرب 1948 وحرب 1973 والانتفاضة الثانية، من خلال إبراز عدد القتلى الإسرائيليين الذين لقوا حتفهم في سياق هذه الأحداث.
وتُظهِر سمات الخطاب الإعلامي الإسرائيلي نزوعه نحو الهيمنة، وهنا يشير فان ديك إلى أن الخطاب الذي يوظف الإيحاءات العنصرية ضد “الآخر” يمثل التحيز والتحامل، ومن ثم الهيمنة على تفكير الجمهور ومواقفه تجاه هذا “الآخر”.
المبالغة والتهويل
نشر موقع “جيروزاليم بوست” تقريرا بعنوان “الهدف كان مذبحة تل أبيب: الكشف عن خطة حماس الكاملة ليوم 7 أكتوبر”، جاء فيه أن “حماس سعت إلى بدء مرحلة ثانية من هجومها، والتي كانت ستشهد هجمات على تل أبيب وديمونة”؟
إن أسلوب المبالغة والتهويل في الخطاب الإعلامي الإسرائيلي يمكن أن يكون مقبولا لو استند إلى أدلة ذات مصداقية، وإلا فسيكون قائما على التبرير والتفسير والتلاعب في الألفاظ للتنصل من المسؤولية، كما حدث في حادثة قتل جيش الاحتلال الإسرائيلي متطوعين من المطبخ المركزي العالمي.
وجاء في افتتاحية صحيفة “جيروزاليم بوست” حول مقتل 7 متطوعين أجانب من فريق المطبخ العالمي أن “القتل غير المتعمد لعمال المطبخ أمر مأساوي، لكن حماس لا تزال مسؤولة عن الحرب”، وبررت الصحيفة بأن “هذه الحوادث تحدث في ظروف المعركة، لقد حدث ذلك لكل دولة شاركت في الحرب”.
ثلاثي الاستعلاء والهروب إلى الأمام ولوم الضحية
نشرت صحيفة “جيروزاليم بوست” تقريرا بعنوان “تدمير حماس وتعزيز العلاقات السعودية: رؤية آيزنكوت لإسرائيل ما بعد الحرب”، جاء فيه إن إشكالية “اليوم التالي” للحرب، وتلكؤ القيادة السياسية الإسرائيلية في الإجابة عن هذا السؤال لم يكن سببه غياب الرؤية، بقدر ما كان يمثل هروبا من المواجهة مع العالم برؤية صادمة، يمكن أن تدخل دولة الاحتلال الإسرائيلي في صراع سياسي مع المجتمع الدولي.
ويمكن وصف هذا الخطاب بـ”الاستعلائي”، إذ تريد إسرائيل تحقيق هدفين يحملان تناقضات صارخة، فهي تريد القضاء على حماس (الحرب)، وفي الوقت نفسه إنجاز عملية تطبيع (السلام) مع السعودية وما تبقى من الدول العربية.
ويمكن القول إن هذا الخطاب يمثل هروبا إلى الأمام من خلال استدعاء فكرة التطبيع مع السعودية، والتعويض عن فشل الجيش الإسرائيلي في تحقيق أهدافه بـ”تصدير الأزمة”، والسعي لأن تقوم دول أخرى وجيوش عربية وأجنبية بالمهمة بالوكالة عن دولة الاحتلال.
وكتبت يارا سيجال في صحيفة “جيروزاليم بوست” مقالا شديد اللهجة ضد مجلس الأمن، واعتبرت أن قرار المجلس بوقف إطلاق النار، وموقف الولايات المتحدة بعدم استخدام حق النقض (الفيتو) الذي سمح بتمرير القرار، هو قرار معاد لإسرائيل، ويخدم حماس وإيران، ويمنع إطلاق سراح الإسرائيليين من غزة، في اتهام مبطن لأميركا بالجهل لخدمة “الأعداء” من خلال عدم استخدامها للفيتو.
وفي سياق استمرار التهرب من المسؤولية عن قتل المدنيين في غزة، واستخدام أساليب “لوم الضحية” والتبرير وتحويل الانتباه، نشر موقع “تايمز أوف إسرائيل” مقطعا من كلمة السفير الإسرائيلي في الأمم المتحدة جلعاد أردان أمام مجلس الأمن قائلا “على المجلس أن يدعو حماس إلى وقف إطلاق النار إذا أرادت إنهاء القتال في غزة. لماذا لا يكون مشروع القرار هذا موجها إلى يحيى السنوار وإسماعيل هنية؟”.
الإسقاط لتغيير السياق
وتضمن الخطاب الإعلامي الإسرائيلي أسلوب الإسقاط في مواطن كثيرة، منها إلقاء مسؤولية تعثر المفاوضات على حركة حماس، رغم أن الحركة وافقت على عدة مقترحات لوقف إطلاق النار في ظل تعنت إسرائيلي متواصل.
ونشرت جيروزاليم بوست تقريرا بعنوان “حماس ترفض التسوية الأميركية بشأن صفقة الرهائن ولا تلبي المطالب”، وجاء في عنوانها الفرعي “وافقت إسرائيل يوم السبت على التسوية التي اقترحتها الولايات المتحدة بشأن عدد السجناء الفلسطينيين الذين سيتم إطلاق سراحهم”.
وقد استمر الخطاب ذاته طيلة فترة المفاوضات لتبادل الأسرى ووقف الحرب لعدة أشهر، ويظهر ذلك من خلال الرسائل التي يتضمنها العنوان، ومن أبرزها “حماس ترفض” مقابل “وافقت إسرائيل”.
ولأن حركة حماس تشترط أن تستند أية صفقة إلى مبدأ وقف نهائي لإطلاق النار، فإن الإعلام الإسرائيلي يستخدم أسلوب الإسقاط بهدف الشيطنة من جهة، ووضع حركة حماس في قفص الاتهام من جهة أخرى، باعتبارها “تعطل صفقة التبادل”.