رأي

الملكية الاجتماعية بروح تنموية و أبعاد دبلوماسية

الملكية الاجتماعية بروح تنموية و أبعاد دبلوماسية

دشن جلالة الملك محمد السادس مسار العهد الجديد بورش تنموي مفتوح كالمبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي شهدت هي الأخرى دفعة قوية على مستويين، الأول في البرامج والاستهداف والثاني على مستوى حكامة تدبير هذا الورش، إذ اشتملت لحد اليوم على مراحل مواكبة للمستجدات والتحديات الاجتماعية الوطنية حيث هدفت المرحلة الأولى (2005-2011) إلى محاربة الفقر في المناطق القروية ومحاربة الهشاشة ومكافحة الإقصاء الاجتماعي في المناطق الحضرية، ودعم الأشخاص في وضعية هشة. فيما ركزت المرحلة الثانية (2011-2015) على تعزيز مكتسبات المرحلة الأولى، وتوسيع دائرة المستفيدين، وتحسين الحكامة والشفافية في تنفيذ المشاريع. فيما تهدف المرحلة الثالثة التي انطلقت سنة 2016 إلى تقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية، وتعزيز المشاركة المجتمعية والتضامن الاجتماعي مع التركيز على الشباب وتحسين ظروفهم الاجتماعية والاقتصادية، ليتوج حاليا هذا المسار التنموي الاجتماعي للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية في أفق الاستمرارية والتجديد التي تمتد لفترة 2023-2028 بهدف تحقيق التنمية المستدامة والشاملة، وتعزيز التكامل بين المبادرات المختلفة لتحقيق تنمية متوازنة، وزيادة الفعالية والنجاعة في تنفيذ المشاريع.

وفي أفق تحقيق الرفاه الاجتماعي لكل مواطن ومواطنة ما فتئ جلالة الملك يوجه عنايته لضمان الكرامة الاجتماعية الأسرية، فعلى مستوى السياسة السكنية سهر جلالته على إرساء سبل ضمان الحق في السكن عبر سياسة سكنية تتلخص معالمها الكبرى في خلق المدن الجديدة والمبتكرة، إنشاء مدن جديدة مثل تامسنا، زاكورة، والشرفات وتوفير بيئة حضرية متكاملة مع كافة الخدمات الأساسية، وتعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية في المناطق الجديدة، وتطوير هذا المستوى في إطار الرؤية التنموية المستدامة لجلالة الملك من خلال تجربة المدن الذكية والمدن البيئية المستدامة التي تدل على النظر السديد لجلالة الملك وتطلعه إلى جعل المغرب نموذجا يستلهم التجارب الدولية مع المحافظة على الخصوصيات الوطنية في مجال التعمير والتخطيط الترابي والتراثي لخلق التفرد الوطني والتميز في الميدان.

فيما أولى جلالته كذلك أهمية كبرى لملف السكن الاجتماعي الذي حظي بمناقشة جلالته لهذا الملف في مجلس وزاري بما يؤكد أهميته التنموية الاجتماعية وعمق انشغال جلالته بهذا الملف.

فمرت هذه التجربة الوطنية الطموحة من مشروع السكن الاجتماعي بهدف توفير سكن لائق وبأسعار معقولة للأسر ذات الدخل المحدود. فيما عرف هذا الورش الاجتماعي كذلك تحديثا مهما توج حاليا ببرنامج دعم شراء السكن عبر التحويل المالي المباشر والذي عرف تطويرا هيكليا، فبفضل هذه العناية تم تخصيص دعم مالي للأسر المعنية بشراء السكن.

في قطاع التعليم الذي يعتبر أولوية كبرى في السياسة الاجتماعية لجلالة الملك، إذ ما فتئ يؤكد جلالته أن العناية بميدان التربية والتعليم والتكوين تأتي مباشرة بعد قضية الوحدة الترابية، ولذلك فإن الجهود الملكية في النهوض بالتربية والتكوين والبحث العلمي تثمر نتائج مهمة، لا سيما في ضوء التقدم الذي عرفته آليات دعم التمدرس في صفوف الفتيات على الخصوص، وتخصيص الدعم المالي لمواكبة تمدرس أبناء العالم القروي، هذه المبادرة التي تم تعميمها على جميع الأسر التي يلتحق أبناؤها بالمدرسة في الوسطين القروي والحضري، ثم إدماجها في الورش الملكي للدعم الاجتماعي.

وبالنسبة للتعليم العالي فإن التوجه العام يشكل انخراطا إيجابيا في الدينامية التي خلقها جلالة الملك على مستويات التصنيع والبحث العلمي في المجالات الحيوية، وكذلك في مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية. تم خلق مجموعة من التكوينات التي تستجيب لحاجيات سوق الشغل من جهة، وتعزز فرص البحث العلمي المنتج للحلول المجتمعية في مختلف مجالات التدخل، ولا أدل على ذلك من التكوينات التي تهتم بالميدان الاجتماعي التي يندرج ضمنها ماستر إدارة المؤسسات والعمل الاجتماعي الذي يتم التنسيق البيداغوجي فيه في كليات العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية وكليات الآداب والعلوم الإنسانية وغيرها من مؤسسات التعليم العالي المنشغلة بقضايا التنمية في إطار التوجهات الملكية الاستراتيجية في مجالات التكوين والبحث العلمي.

وبمناسبة الذكرى 25 في ظل الملكية الثانية، لابد أن نستحضر العناية التي خصها جلالته للمرأة في مختلف جوانب اهتمامها ولاسيما شؤونها الاجتماعية، حيث باشر جلالته العديد من الإصلاحات المؤسساتية والتشريعية في مجال النهوض بحقوق المرأة وشؤونها، فمنذ إحداث جلالته للجنة الملكية الاستشارية لإصلاح مدونة الأحوال الشخصية إلى اليوم، وعبر العديد من الأوراش المهمة التي تستهدف النهوض بالوضعية الاقتصادية والاجتماعية للمرأة ومكانتها في المجتمع المغربي وتعزيز وتقوية حضورها في المؤسسات.

ناهيك عن الترسانة التشريعية التي شهدت تطورا ملحوظا، بل يمكن اعتبار العهد الجديد بقيادة جلالة الملك محمد السادس بمثابة عهد الإصلاح التشريعي في محاربة كل أشكال العنف والتمييز، ففضلا عن المقتضيات الدستورية التي كرست حقوق ووضعية المرأة في المجتمع المغربي، تعززت الحصيلة الاتفاقية للمغرب بالتصديق على اتفاقية إنشاء منظمة المرأة العربية الموقعة بالقاهرة سنة 2000، ونشر الإعلان عن رفع تحفظات المملكة المغربية المضمنة في وثائق الانضمام إلى اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة سنة 2011، والموافقة على البروتوكول الاختياري لنفس الاتفاقية، والموافقة على النظام الأساسي لمنظمة تنمية المرأة في الدول الأعضاء بمنظمة المؤتمر الإسلامي (منظمة التعاون الإسلامي حاليا)، وبروتوكول منع وقمع ومعاقبة الاتجار بالأشخاص وبخاصة النساء والأطفال المكمل لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية (2012). كما تعززت الترسانة التشريعية الوطنية بالقانون 103.13 المتعلق بمحاربة العنف ضد النساء، ومرسوم إحداث لجنة وطنية للمساواة بين الجنسين وتمكين المرأة، ومرسوم تحديد لائحة الأشغال الممنوعة على الأحداث دون الثامنة عشرة والنساء والأجراء المعاقين (2005)، والمرسوم المتعلق بصندوق الدعم لتشجيع تمثيلية النساء.

وأبرز ورش حاليا على المستوى الوطني والذي وجد صداه وإشادة المجتمع الدولي والمنظمات المهتمة بالشؤون الاجتماعية، هو المتمثل في واحد من الأوراش الكبرى التي أطلقها جلالة الملك محمد السادس، والذي شكل ثورة اجتماعية حقيقية يقودها جلالته، فورش تعميم الحماية الاجتماعية يهدف إلى تقليص الفقر ومحاربة كل أشكال الهشاشة ودعم القدرة الشرائية للأسر وتعميم التأمين الصحي الإجباري على جميع المواطنات والمواطنين، وتعميم التعويضات العائلية والتعويض عن فقدان الشغل، وتوسيع نظام التقاعد.

فلقد تمت ترجمة هذا الورش الملكي في صيغة قانون إطار يتعلق بالحماية الاجتماعية، حددت أهدافه في تعميم التغطية الصحية الإجبارية في أفق 2022 لفائدة 22 مليون مستفيد إضافي، وتعميم التعويضات العائلية في أفق 2024 لفائدة حوالي 7 ملايين طفل في سن التمدرس، وتوسيع الانخراط في أنظمة التقاعد في أفق 2025 لفائدة 5 ملايين مغربي من السكان النشيطين، وتعميم الاستفادة من التعويض عن فقدان الشغل في أفق 2025 بالنسبة لكل شخص يتوفر على عمل قار.

ختاما، يلزم القول إن جلالة الملك ينظر في قيادته الرشيدة للبلاد بعين اجتماعية ثاقبة ترصد الواقع وترسم المأمول، ولابد هنا أن نشير إلى نقطة في غاية الأهمية يغفل عنها الكثيرون، وهي المتمثلة في التدبير الاجتماعي لقضية الوحدة الترابية، حيث إن مبادرة الحكم الذاتي للأقاليم الجنوبية تسودها روح تنموية اجتماعية، وحظيت بنظرة وعطف جلالته على الوطن والمواطنين، وإلا فما كان لها أن تشكل واحدة من مشاهد التلاحم بين العرش والشعب المستمر منذ مهد الدولة العلوية إلى حاضر المملكة ومستقبلها.

أستاذ القانون العام بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية عين الشق بالدار البيضاء-

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News