رأي

صناعة ملك.. من التأطير الصامت إلى الهندسة العميقة

صناعة ملك.. من التأطير الصامت إلى الهندسة العميقة

يعد التتويج الأكاديمي لولي العهد، الأمير مولاي الحسن، بحصوله على شهادة الماستر في تخصص العلاقات الدولية من كلية الحكامة والعلوم الاقتصادية والاجتماعية – التابعة لجامعة محمد السادس متعددة التخصصات التقنية، فرع سلا، محطة نوعية ضمن مسار معرفي صمم بعناية ووعي استراتيجي. هذا المسار لا يندرج ضمن التكوين التقليدي للأمراء، بل يعكس رؤية مؤسسة ملكية تعي بدقة شروط التحول، ورهانات الزمن الجيوسياسي الراهن.

فالمؤسسة الأكاديمية التي اختيرت لهذه المحطة لا تمثل مجرد صرح علمي مرموق، بل هي فضاء يجمع بين صرامة التكوين الأكاديمي وانفتاحه على القضايا العالمية المعاصرة، في الاقتصاد والسياسة والعلاقات الدولية، إلى جانب اعتمادها على مناهج بيداغوجية حديثة تستلهم أفضل النماذج الجامعية العالمية. من هنا تتبدى طبيعة هذا الاختيار: ليس تكوينا عابرا، بل تمهيد هندسي لمسار سيادي مستقبلي.

في زمن باتت فيه خرائط السلطة والسيادة تعيد رسم نفسها، لم يعد الحكم نتاجا لشرعية بيولوجية أو إرث تاريخي فحسب، بل أصبح يرتكز على إعادة تشكيل مفهومي “الحكم” و”القيادة” ليتماشى مع تحولات القرن الحادي والعشرين وفق منطق ما بعد الدولة التقليدية: الاقتصاد، التكنولوجيا، الأمن السيبراني، المناخ، الرقمنة… كلها أصبحت محددات رئيسية لمعادلات الحكم الراهن. جميعها باتت تعيد صياغة سؤال: من يحكم؟ وكيف يحكم؟

 من هذا المنظور، لم يعد إعداد الحاكم مهمة بروتوكولية، بل عملية استراتيجية دقيقة تتطلب هندسة معرفية ونفسية طويلة المدى.

إن التجربة المغربية، في هذا السياق، تطرح نموذجا خاصا لصناعة القيادة، عبر مشروع متكامل لا يهدف فقط إلى تأهيل ولي عهد، بل إلى صياغة شخصية حاكمة تتوفر على قدرة تفاعلية مع متغيرات العالم، وتمتلك أدوات التحليل والتأثير، داخل وخارج الدولة.

ما كشفته تقارير صحفية، على غرار Africa Intelligence، يعزز ما كان يدار في الظل: أن التأطير الذي يخضع له الأمير مولاي الحسن ليس تقليديا، بل يستند إلى رؤية شمولية تعنى بإعادة بناء استراتيجي للفكر، والتمثلات، والمهارات.

لا يتعلق الأمر هنا ببرنامج بروتوكولي للتكوين، بل بمنهج يرقى إلى ما يمكن وصفه بـ”البرمجة الذهنية-السياسية لقائد الدولة المقبل”. فالهندسة الجارية تقوم على استشراف تحولات الزمن المقبل، وتستند إلى تأطير طويل المدى، تساهم فيه أسماء وازنة من قبيل مصطفى التراب، رئيس مجموعة OCP، بما له من باع طويل في الاقتصاد العالمي وموقعه كمخضرم في فهم لغة الأسواق والسلطة، وكريم العيناوي، المفكر والخبير الاستراتيجي المعروف في مراكز التفكير الدولية.

وجود مثل هذه الكفاءات، كما أشار إلى ذلك تقرير Africa Intelligence  إلى جانب ولي العهد ليس تفصيلا، بل إشارة إلى عمق الرؤية التي تصاغ من خلالها شخصية الحاكم المستقبلي.

فالأمير الشاب لا يمر فقط بمسار أكاديمي مرموق، بل يصاغ على مقاس قيادة تستوعب مفردات القرن الواحد والعشرين. فما يجري خلف أسوار القصر إذن، لا يمكن اختزاله في إعداد تقليدي لوريث، بل هو إعادة تعريف شاملة لمفهوم الحكم ذاته، نموذج جديد يدمج بين الرؤية التاريخية للمؤسسة الملكية والدينامية الحديثة ومقتضيات الزمن الرقمي.

نحن أمام تصور تأهيلي يجمع بين الكفاءة التقنية، والفهم الجيوستراتيجي. فالمسار الحالي لا يقطع مع التقاليد، بل يعيد تأويلها بمنطق العصر، ويحافظ على الجوهر مع تحديث في الوسائل، في مقاربة توازن بين المرجعية والانفتاح.

الهندسة الجارية ليست صاخبة، بل دقيقة، واعية، ومدروسة. وهي لا تهدف إلى الاستعراض، بل إلى إنتاج قيادة مسؤولة وفعالة، قادرة على مخاطبة العالم بلغته من موقع الندية والمعرفة. وولي العهد، كما يبدو من ملامح هذا المسار، يعد ليكون مرنا، واثقا، متجذرا في الحاضر، ومستوعبا للتعقيد الزمني.

في هذا النموذج، لا يعود الحاكم مجرد رأس هرم سلطوي، بل يتحول إلى مركز تفكير، وضامن لتوازنات الدولة، وشريك فاعل في صياغة السياسات الكبرى.

ما يحدث في قلب العاصمة ليس استعجالا للانتقال، بل تنظيم بالغ الدقة وترتيب واع، ومنسق، ومؤسسي لمسار تهيئة شامل. كل خطوة محسوبة: من ترتيب مكتبه داخل القصر، إلى مشاركته في المجالس الوزارية، ومن ظهوره العلني في بعض اللقاءات الديبلوماسية وحضوره في ملتقيات دولية، إلى مساره الجامعي المتفرد. هذه ليست إشارات عبور، بل ملامح نضج تدريجي، يحترم إيقاع الدولة ويصغي لنبض التاريخ.

الصورة واضحة: نحن لا نعاين فقط إعداد فرد، بل نشهد تشكيل نموذج حكم جديد، مدرك لحجم التحولات الجيوسياسية والتحديات البنيوية. الشخصية الجارية صياغتها لا تسير في مسار تكراري، بل في مشروع تكويني جامع للجدية، الفكر، والبصيرة الاستراتيجية.

ويستدل على ذلك بما يظهر من ملامح سلوكية وبروتوكولية لدى ولي العهد: الجدية والانضباط، الوعي الرمزي، والقدرة على الحضور في المحافل الدولية بلغة الزمن الجديد، في تفاعل متقن مع رموز السياسة والدبلوماسية العالمية… كلها إشارات تؤكد أن ما يبنى ليس مجرد وراثة، بل قيادة صاعدة مدروسة، تسابق الزمن وتستوعب تعقيداته.

ختاما، يبدو أن الأمير مولاي الحسن يهيأ ليكون ملكا بصيغة جديدة، لا يختزل دوره في تمثيل الدولة فقط، بل في المشاركة في إعادة بنائها وتوجيهها نحو المستقبل. ملك يجمع بين التقاليد والتجديد، بين رمزية المؤسسة وفعالية الرؤية. قيادة ليست فقط عنوانا للاستمرارية، بل أفقا للتحول في عالم يخضع لإيقاع متسارع من التحولات الجيوسياسية والتكنولوجية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News