الاعتراف البريطاني بمغربية الصحراء.. تحول نوعي فرضته اعتبارات اقتصادية

لم يكن الموقف البريطاني الأخير الداعم لمغربية الصحراء مفاجأة كبيرة، خاصة بالنسبة للخبراء الاقتصاديين، الذين توقعوا منذ مدة أن تفضي المصالح الاقتصادية الكبيرة المتبادلة بين المملكتين إلى مزيد من التعاون السياسي. لا سيما وأن المغرب، الذي فرض نفسه بوابة نحو السوق الإفريقية الواعدة، يعد شريكاً لا غنى عنه لكل القوى الأوروبية الطامحة لاغتنام فرص تلك الأسواق.
وبما أن المملكة المتحدة بعد “بريكسيت”، تبحث عن إعادة تموقع اقتصادي ودبلوماسي عالمي، خصوصًا في إفريقيا، تحت استراتيجية “Global Britain” فهي مدركة لأهمية كسب شريك هام في هذا المجال وهو المغرب، وفق ما كانت كشفت عنه ورقة بحثية صادرة عن المعهد المغربي للذكاء الاستراتيجي.
واعتبرت الورقة ذاتها أن المغرب يُنظر إليه كشريك استراتيجي محتمل ومحوري لولوج بريطانيا إلى إفريقيا، خاصة إفريقيا الغربية، مشيرة إلى أن اتفاق الشراكة البريطاني-المغربي (2021) أعاد إحياء العلاقات بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، مع الحفاظ على امتيازات اتفاق المغرب–الاتحاد الأوروبي.
من جانبه، يرى الخبير الاقتصادي والاستراتيجى، ادريس الفينة، أن العلاقات الاقتصادية بين المملكة المتحدة والمملكة المغربية تشهد تحوّلاً عميقاً يؤذن ببروز محور استراتيجي جديد بين ضفتي الأطلسي، يتجاوز منطق المبادلات التجارية التقليدية نحو شراكة متعددة الأبعاد.
واعتبر الأستاذ بالمعهد الوطني للإحصاء والاقتصاد التطبيقي أن هذا التقارب تغذيه ضرورات جيو-اقتصادية، وتحفزه ديناميات الأسواق العالمية ما بعد البريكسيت. بحيث “لم يعد التعاون الاقتصادي بين البلدين امتداداً لعلاقات تاريخية قديمة فقط، بل أصبح استجابة حديثة لمنعطفات حاسمة تشهدها الساحة الدولية”.
بريكسيت.. بريطانيا بحاجة لشركاء جدد
وبالحديث عن بريكسيت، فقد تبين أن الأخير خلف تداعيات اقتصادية وخيمة على بريطانيا، تمثلت في انخفاض في الناتج المحلي الإجمالي بين 2% و6% حسب التقديرات، علاوة على ركود اقتصادي مزمن (تراجع الناتج المحلي لرُبعين سنويين متتاليين).
ومن التداعيات الأخرى لخروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي تراجع في القوة الشرائية، وارتفاع في تكلفة المعيشة، وتراجع استهلاك الأسر، وتراجع حاد في التجارة الخارجية، خاصة مع الاتحاد الأوروبي، رغم بعض الاستثناءات (مثل فرنسا)، وكذا نزوح شركات بريطانية نحو أسواق أخرى (ناسداك، أمريكا، إلخ).
لتعويض هذه الخسائر الجسيمة، قررت المملكة المتحدة جعل إفريقيا في صميم الاستراتيجية البريطانية الجديدة، المتمثلة أهدافها في تنويع الشركاء التجاريين، وتأمين موارد الطاقة، ومحاربة التهديدات الأمنية.
“مع مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي، برزت الحاجة الملحة لدى لندن إلى إعادة بناء روابطها التجارية والمالية مع شركاء استراتيجيين خارج المنظومة الأوروبية. في هذا السياق، لم يكن اختيار المغرب اعتباطياً، بل مدروساً ضمن رؤية إعادة التموقع البريطاني في فضاءات تتميز بالاستقرار، والانفتاح، والقرب الجغرافي من أوروبا وإفريقيا” يقول الفينة في تصريح لصحيفة “مدار 21”.
وأضاف: “فالمغرب، ببنيته التحتية الحديثة، ومناخه الاستثماري الجذاب، واتفاقياته التجارية الممتدة مع العشرات من البلدان، يتيح لبريطانيا منفذاً مرناً نحو أسواق متعددة، خاصة في القارة الإفريقية”.
ولا يتعلق الأمر بإفريقيا بشكل عام، بل تحديداً في إفريقيا الغربية، الذي رأى المعهد المغربي للذكاء الاستراتيجي في هذه المنطقة ما يغري لندن؛ “مشاريع نفط وغاز، نقل الطاقة، مكافحة الإرهاب، وتمثيلية دبلوماسية موسعة”.
وفي هذا السياق، يعتبر المغرب بوابة استراتيجية نحو إفريقيا بفضل موقعه الجغرافي (قربه من أوروبا وإفريقيا)، واستقراره السياسي والمؤسساتي، وبنيته التحتية المتطورة (ميناء طنجة المتوسط، مشروع ميناء الداخلة)، ودوره كمركز مالي إفريقي (Casablanca Finance City). علاوة على دوره في تأمين منطقة الساحل واستثماراته المتزايدة في إفريقيا.
مبادلات تجارية في نمو مستمر
كما أكد رئيس المركز المستقل للدراسات الاستراتيجية، أن الأرقام الأخيرة الصادرة عن الهيئات الاقتصادية في البلدين تعزز هذا التحول؛ إذ تجاوز حجم المبادلات التجارية الثنائية عتبة 3.1 ملايير جنيه إسترليني سنة 2024، أي ما يعادل 39 مليار درهم مغربي، مسجلاً نمواً بأكثر من 45% مقارنة بعام 2020.
ويعود هذا الارتفاع إلى تنوع سلة الصادرات المغربية نحو السوق البريطانية، وفي مقدمتها المنتجات الفلاحية والصناعات الغذائية ومكونات السيارات. ومن جهة أخرى، تشهد السوق المغربية تزايداً في واردات المعدات الصناعية والطبية والتكنولوجية البريطانية، بما يؤشر على تقارب تكاملي في احتياجات العرض والطلب بين الاقتصادين.
محاور التعاون الممكنة بين المغرب والمملكة المتحدة كثيرة ومتنوعة، يبقى أهمها تحرير إضافي للتبادل التجاري (خاصة في الفلاحة والصيد البحري)، مع تعزيز التعاون في الطاقات المتجددة (“مثل مشروع Xlinks – ” الذي سيربك بين المملكتين كهربائيا، بحسب المعهد المغربي للذكاء الاستراتيجي.
ذلك ما يراه الفينة كذلك؛ “المشروع الضخم لشركة Xlinks البريطانية لإنشاء كابل كهربائي بحري يربط المغرب ببريطانيا، والذي تقدر كلفته بـ22 مليار دولار، ليس فقط رمزاً لهذا التموقع، بل نموذجاً لمستقبل العلاقة: إنتاج مشترك، موجه للتصدير، قائم على الطاقة النظيفة، ويعكس رهاناً طويل الأمد”.
وبما أن الاعتراف البريطاني الأخير بمخطط الحكم الذاتي المغربي كحل وحيد ذي مصداقية لحل قضية الصحراء المغربية، فتشجيع الاستثمار البريطاني في الأقاليم الجنوبية للمغرب، يعد أحد المحاور الممكنة للتعاون الاقتصادي بين البلدين، مع تطوير مناطق اقتصادية خاصة في المغرب.
ويمكن للمغرب، وفقا للورقة البحثية أن يستفيد من الخبرة البريطانية في مجالات الصحة، التعليم، الأمن، والخدمات المالية.
بدوره، خلص الفينة إلى أن ما يجعل هذه الشراكة واعدة أيضاً هو التكامل الاستراتيجي في الرؤية. فبريطانيا تبحث عن أسواق بديلة تُعوض القيود التجارية بعد البريكسيت، في حين يسعى المغرب إلى تنويع شركائه وتعميق دوره كبوابة للقارة الإفريقية.
و”يتقاطع هذا الطموح مع التوجهات العالمية نحو التموضع الجغرافي الجديد لسلاسل الإمداد، والبحث عن شركاء مستقرين في زمن تتزايد فيه المخاطر الجيوسياسية في أوروبا الشرقية وآسيا”.
كما تشير التوقعات الرسمية إلى احتمال مضاعفة المبادلات التجارية بين البلدين لتبلغ 6 مليارات جنيه إسترليني بحلول عام 2030. هذا النمو لن يكون رقمياً فقط، بل هيكلياً أيضاً، شرط أن تستثمر الدولتان في دعم التكامل الصناعي، وتشجيع المقاولات الصغيرة والمتوسطة على ولوج السوق الثنائية، وتفعيل أدوات تمويل بريطانية مثل “UK Export Finance”، مع مواصلة المغرب تحسين مناخ الاستثمار، وتوسيع نطاق المناطق الصناعية المتخصصة.