موقف

حكمة وقوة خطاب ذكرى المسيرة الخضراء

حكمة وقوة خطاب ذكرى المسيرة الخضراء

جاء الخطاب الملكي السامي بمناسبة الذكرى السادسة والأربعين للمسيرة الخضراء ليؤكد الحكمة الكبيرة التي يدبر بها المغرب ملف قضيته الوطنية، ورغم أن الخطاب جاء في سياق مشحون تدق فيه الجارة الشرقية طبول الحرب، وتستمر فيه الطعمة الانفصالية في الاستفزازت، فقد ترفع جلالة الملك في خطاب ذكرى وطنية تخص الصحراء المغربية عن مسايرة منطق أعداء الوحدة الترابية، وجاء الخطاب خاليا من أية إشارة مباشرة لآخر التطورات الاستفزازية التي أشعلت نيراها الديبلوماسية اتهامات مجانية لحكام الجزائر للمغرب بـ”باغتيال” ثلاثة مواطنين جزائريين في قصف متوهم، وتهديد رئيس دولتها المغرب بما أسماه بيان رئاسي “العقاب”، ومراسلتهم لجميع المنظمات الدولية والاقليمية بهذا الشأن، وهو ما جعل دولة الجزائر في وضعية حرب عززها ما تناقلته وسائل الاعلام من دخولها في استعدادات عسكرية، ما أثار موجة من دعوات التهدئة وضبط النفس من تلك المنظمات ومن عدد من رؤساء الدول. فما هي الحكمة من ترفع خطاب المسيرة عن الخوض في هذه التطورات الاستفزازية؟

إن ترفع خطاب رئيس الدولة المغربية، الملك محمد السادس، عن الخوض في التطورات الاستفزازية الأخيرة سلوك طبيعي جدا بالنظر إلى المنطق الهادئ والرصين الذي يدبر به جلالة الملك ملف الصحراء، ويمكن مقاربة الحكمة من ذلك من خلال العناصر التالية:

العنصر الأول: ليس هناك في العمق ما يفرض التعرض لتلك التطورات في خطاب ملكي تحكمه أعراف حول قضية عمرت أزيد من أربعة عقود، وتلك التطورات الاستفزازية، المبنية على “قصة مفتعلة”، ليست أكثر من مؤامرة جزائرية لجر المغرب إلى مستنقع حرب دشتنها بهجومات دبلوماسية وإعلامية وعلى أعلى مستوى. والمغرب أعلن عبر جهازه الدبلوماسي موقفه من تلك التطورات، والتي كشفت آخر المستجدات المتعلقة بالتحقيق الذي فتحته الأمم المتحدة حول فرية اغتيال المواطنين الجزائريين، تهافت مزاعم الجزائر وتورطها في أكاذيب وفي محاولة التلاعب بالرأي العام الدولي وبمختلف المنظمات التي راسلتها وتحاول تعبئتها لخدمة مشروعها في زعزعة الاستقرار في المنطقة.

العنصر الثاني: لو قدر لخطاب ذكرى المسيرة الخضراء التعرض لتلك التطورات الاستفزازية، فسيكون ذلك من دون شك منسجما مع المنهجية العقلانية والمتزنة التي دأب جلالة الملك على اعتمادها في التعامل مع حكام الجزائر، ولن يعطيهم فرصة تبرير حماقاتهم الداعية للحرب وهم إنما يفعلون ذلك للتهرب من مواجهة تحديات الجبهة الداخلية بفتح جبهة خارجية. لكن لا فائدة من التطرق لتلك التطورات أو الإشارة إليها بنفس المنهج، بعد التعامل غير الأخلاقي وغير الدبلوماسي الذي واجه به حكام الجزائر دعوة جلالة الملك لهم في خطاب العرش الأخير بالقول: “أجدد الدعوة لأشقائنا في الجزائر إلى العمل سويا دون شروط لبناء علاقات ثنائية أساسها الثقة والحوار وحسن الجوار”. فهل سيواجه الملك حماقات حكام الجزائر التواقة لسفك الدماء بتجديد دعوة لم يمر عليها سوى قرابة ثلاثة أشهر، واعتبروها حينها “مؤامرة”! فجنرالات الحرب الجزائريين لن يفهموا من أي خطاب عقلاني سوى أنه دليل ضعف وخوف، مما قد يغذي نزعات الحرب لديهم.

العنصر الثالث: خطاب المسيرة الأخير كان واضحا في إعلان أن المغرب ليس لديه جديد في موقفه وتدبيره لملف صحرائه، لذلك أكد خطاب جلالة الملك على أمور مهمة، أولها تأكيده أن “مغربية الصحراء حقيقة ثابتة، لا نقاش فيها، بحكم التاريخ والشرعية، وبإرادة قوية لأبنائها، واعتراف دولي واسع”. وبعد تذكيره بأهم التطورات الإيجابية في الملف أكد جلالته أن “هذا التوجه يعزز بشكل لا رجعة فيه، العملية السياسية، نحو حل نهائي، مبني على مبادرة الحكم الذاتي، في إطار السيادة المغربية” وأكثر من ذلك أكد رئيس الدولة المغربية أن “المغرب لا يتفاوض على صحرائه. ومغربية الصحراء لم تكن يوما، ولن تكون أبدا مطروحة فوق طاولة المفاوضات”. وفيما يمكن أن يكون جوابا رصينا عن التطورات الاستفزازية، لمن يبحث عن ذلك الجواب، أضاف جلالته،” إنما نتفاوض من أجل إيجاد حل سلمي، لهذا النزاع الإقليمي المفتعل. وعلى هذا الأساس، نؤكد تمسك المغرب بالمسار السياسي الأممي، ونجدد التزامنا بالخيار السلمي، وبوقف إطلاق النار، ومواصلة التنسيق والتعاون، مع بعثة المينورسو، في نطاق اختصاصاتها المحددة”.

العنصر الرابع: خطاب المسيرة، الذي جاء في ظرفية شديدة التوتر مع الجارة الشرقية، تضمن رسالة قوية تؤكد العزم القوي للمغرب على فرض مغربية الصحراء في سائر معاملاته مع شركائه في مختلف المجالات، وقال جلالته: “نود هنا أن نعبر عن تقديرنا، للدول والتجمعات، التي تربطها بالمغرب اتفاقيات وشراكات، والتي تعتبر أقاليمنا الجنوبية، جزءا لا يتجزأ من التراب الوطني. كما نقول لأصحاب المواقف الغامضة أو المزدوجة، بأن المغرب لن يقوم معهم، بأي خطوة اقتصادية أو تجارية، لا تشمل الصحراء المغربية”. وهذا التوجه الجديد ليس أكثر من ترجمة عملية لمنهج الحزم الذي يطبع تعامل جلالة الملك مع ملف الوحدة الترابية، وهو توجه براغماتي ذكي وشجاع لوضع الشراكات المغربية في الميزان وحدته الترابة، ميزان يقيس خدمة تلك الشراكات للوحدة الترابية، والتي تصبح بهذا التوجه الجديد على رأس الأولويات الوطنية، لذلك ختم جلالة الملك خطابه بالتأكيد أن “قضية الصحراء هي جوهر الوحدة الوطنية للمملكة. وهي قضية كل المغاربة”.

قد يغيض حكام الجزائر التوجه القوي لخطاب المسيرة، وهم ينتظرون انزلاق المغرب إلى منطقهم وأجنداتهم المعادية لمصلحة شعبهم، وقد يستوعبون الدرس في أن الكبار يتعاملون من موقع ومنطق الكبار، موقع يجعل مصلحة الشعوب فوق كل اعتبار، ويجعل قيم السلم والتعاون عقيدة تحكم المواقف حتى في أشد اللحظات. لقد أكد جلالة الملك مرة أخرى أن مبادراته تجاه الأشقاء الجزائر ليس مؤامرات، بل هي محور رؤية استراتيجية تومن بمستقبل زاهر ممكن للمنطقة من باب التعاون والاستقرار والأمن والسلام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News