حوار نادر بين قلب الدولة وعقلها!

اعتاد الناس أن يصادفوا المناظرات والنقاشات الساخنة بين رجال الدين وغيرهم من المسؤولين أو المفكرين، حتى بات الجدل العقيم يعيد تكرار نفسه في كل مناسبة بعناوين مختلفة، في معارك كلامية تشعر منذ الوهلة الأولى أن أصحابها يحكمهم هاجس من سيخرج منتصرا، غير أن المجلس العلمي الأعلى بالمغرب اختار عنوانا آخر لما يفترض أن يربط الفقهاء بغيرهم من المسؤولين ومدبري الشأن العام، مبادرة للنقاش والتواصل همها الأول والأخير أن يخرج الوطن والمجتمع منتصرا، ومتخلصا من الظواهر الشاذة التي باتت تثقل تفكيرنا الجماعي.
وإذا كانت العادة أن يعتلي رجال الدين والفقهاء منابر الخطابة، فإن المجلس العلمي اختار أن يجترح تقليدا آخر، يكون فيه علماء الدين منصوتون لا متحدثون، ومتدبرون لمعاني ودلالات مداخلات مدبري الشأن العام من مختلف المواقع، في حوار رفيع ومنتج استقبله الجميع بحفاوة لما أضفاه من معاني على مناخ فكري متبلد ومفتقد للمعاني الدينية العميقة التي تهذب خلق الأفراد وترتقي بعلاقتهم مع الخلق والخالق.
بالفعل، لقاء تواصلي فريد وحوار فكري رفيع ذلك الذي امتدت جسوره، الأحد، بين المجلس العلمي الأعلى ومؤسسات الدولة الأخرى وخبراء التنمية والمسؤولين السابقين، ملخصه الهم الجماعي في التبليغ للمجتمع، تحت مبدأ واضح مؤداه: “كلما تقوى وازع القرآن، تهذب السلوك وتحقق المطلوب، وقلّت تكلفة وازع السلطان، وكلما تراجع وازع القرآن ارتفعت تكاليف وازع السلطان”.
هيبة اللقاء الذي كان غنيا فكريا ومعرفيا، تؤكد بما لا يداع للشك الدور المحوري لإمارة المؤمنين في تأطير النقاش العمومي، ودور العلماء في كل الإصلاحات التي يمكن للمغرب أن ينجح فيها مجتمعياً ومؤسساتيا، كما تؤكد بالمقابل مقدار الكلفة الثقيلة التي يمكن أن يخلفها إهمال الجانب الروحي.
وضع الخبراء والفاعلين في مؤسسات الدولة المغربية وفي مجالات مختلفة الكثير من “الأسئلة الحارقة” في جلباب العلماء، داعين إياهم للتفكير الإيجابي فيها باعتبار الدين عاملا رئيسا في جل المعضلات التي يعيشها المجتمع المغربي، وبالمقابل ظهر جليا ملحاحية المسؤولية الجماعية في “تسديد التبليغ”.
المجلس العلمي تمكن من إبعاد خطة “تسديد التبليغ” عن التشويش الذي واجهها في البداية، إذ سرعان ما أبطله المجلس بجعل الخطبة مقترحة قبل أن يتبناها أكثر من 95 في المئة من الخطباء، وها هو اليوم يسير في اتجاه مزيد من تعبئة المجتمع ومؤسساته ومسؤوليه للانخراط الجماعي في هذا الورش الإصلاحي الهام.
وتسديد التبليغ حسب التعريف الذي وضعه المجلس العلمي هو مشروع تسعى من خلاله مؤسسة العلماء، برعاية أمير المومنين، إلى النهوض بأمانات العلماء في واجب تبليغ الدين من أجل تحقيق مقومات الحياة الطيبة في المعيش اليومي للناس بحيث يكون إيمانهم وعباداتهم ثمرات تنعكس على نفوسهم بالتزكية وصلاح الباطن، وعلى سلوكهم بالاستقامة وصلاح الظاهر.
بين القضاء ممثلا في الرئيس المنتدب للسلطة القضائية، ووزراء حاليين وسابقين، والأمن الوطني، والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، والمجلس الأعلى للحسابات، كان النقاش هو دور الدين في حياة المجتمع، فكان الإجماع على أن “التبليغ” يمكنه أن يحل جزء كبير من المشاكل التي يعاني منها المجتمع.
فالقانون وحده لا يمكن أن يحل مشاكل المغاربة كما جاء على لسان الرئيس المنتدب للنيابة العامة محمد عبد النبوي، الذي وضع المجتمع أمام مسؤوليته الأخلاقية فيما يصدر من أحكام قضائية، بلغت حد تشبيه القضاء بأنه ذلك “الخلاط” الذي يعصر ما جاء به المجتمع، فإن كانت الفاكهة سليمة فإن العصير سيكون طيبا وإن كانت الفاكهة فاسدة فإن العصير سيكون فاسدا.
رسائل اللقاء كانت كبيرة وخصوصا تلك التي كشفها الناطق الرسمي باسم المديرية العامة للأمن الوطني والمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني، بوبكر سبيك، والذي أسقط أسطورة تقول إلى وقت قريب أن رمضان مرتبط بالترمضينة وكثرت الجرائم، مشيرا إلى التراجع في عدد القضايا المسجلة خلال شهر رمضان المنصرم، والدور الكبير الذي يلعبه التدين في تخفيض أرقام الجرائم.
وعلى نفس النهج، سارت مداخلات باقي المسؤولين، وأبرزهم رئيس المجلس الأعلى للحسابات ورئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان، ووزراء بالحكومة الحالية، ومسؤولين سابقين، قاربوا من زوايا مختلفة الأهمية القصوى التي يكتسيها التبليغ وانعكاسه الإيجابي على مختلف مناحي الحياة.
ومن الخلاصات الكبرى التي يمكن استنتاجها من اللقاء أن على العلماء التفكير في كل القضايا ومن جملتها عدم حصر الدين في العبادة، واعتبار القانون من صميم الدين، والتقدم بخطوات في اتجاه ملامسة قضايا تهم واقع الناس الحالي، بالمقابل أن يسير المسؤولون ومدبرو الشأن العام بنفس الخطوات للانخراط في مجهود التربية وتخليق الحياة العامة.
اللقاء كان تجربة أولى لاستماع العلماء للخبراء، وهم يتحدثون من منطلق السؤال المطروح عليهم حول دورهم في التبليغ، لذلك فإن العلماء بعد الاستماع والنظر المتفحص في الأفكار سيقترحون الكيفيات التي يمكن أن يستمر بها هذا الحوار غير المسبوق، وفق ما أكده الكاتب العام للمجلس، وهو ما يفتح آفاقا للحوار المستقبلي الذي سيتتبعه ويحتضنه الرأي العام بحفاوة.