مخاض التعليم.. المفارقات الكبرى!

كشفت أزمة قطاع التعليم التي تتجه نحو إنهاء شهرها الثالث عن عدة مفارقات، وهي مفارقات جعلت القضية تدخل في دوامة غريبة بشكل أشبه بصخرة سيزيف الأسطورية التي سرعان ما تتدحرج نحو السفح كلما اعتقد صاحبها أنه بلغ بها قمة الجبل.
أولى هذه المفارقات تكمن في بروز صراع مرير بين شرعية النقابات التعليمية الأكثر تمثيلية والتي أوكل إليها الفصل الثامن من الدستور المغربي مهمة الدفاع عن الحقوق و المصالح الاجتماعية و الاقتصادية للفئات التي تمثلها من جهة، و مشروعية التشكيلات النضالية الأخرى المعروفة بالتنسيقيات من جهة ثانية. ففي الوقت الذي تعرضت فيه ثقة نساء و رجال التعليم في التنظيمات النقابية لاهتزاز غير مسبوق ،استطاعت التنسيقيات الفتية تعبئة الشغيلة بشكل قوي للانخراط المكثف في سلسلة الإضرابات التي تعلن عنها،في الوقت الذي لم تستطع المركزيات النقابية في العديد من المناسبات إقناع منخرطيها بل قيادييها الجهويين و الإقليميين من تعليق الأشكال الاحتجاجية و العودة للاشتغال في المدارسة العمومية التي أصيبت بشلل تام منذ بداية هذه الأزمة.
هذا الواقع المفارق أفرز نوعين من الصراع بين الطرفين، النوع الأول هو صراع حول امتلاك مشروعية التحاور و التفاوض ، وهو ما يفسر الخطابات التي تنزع إلى تجريد النقابات من مشروعية تمثيل الشغيلة في الحوارات و اللقاءات مع اللجنة الوزارية التي كلفها رئيس الحكومة لهذا الغرض، بالنظر إلى أن هذه النقابات لا تمسك بالخيوط العريضة للاحتجاج في الشارع . كما تعتبرها التنسيقيات عنصرا من عناصر الأزمة باعتبارها طرفا في اتفاقات سابقة لم تفعل على أرض الواقع. أما الصراع الثاني فهو صراع ميداني بامتياز، ويبرز بقوة في تتبع نسب الإضراب المعلنة بعد كل اتفاق تدعو فيه النقابات و الوزارة إلى استئناف الدراسة ، وكذلك في التداول الواسع لصور و فيديوهات المسيرات الضخمة التي تنظمها التنسيقيات هنا و هناك عبر ربوع الوطن.
يبدو كذلك أن المطلب الرئيسي الذي رفعته التنسيقيات، و هو المطالبة بسحب النظام الأساسي الذي كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير في سياق منظومتنا التربوية ، يكشف الآن عن مفارقة أخرى. فتنصيص محضر اتفاق 26 دجنبر2023 بين اللجنة الوزارية الثلاثية و ممثلي النقابات على نسخ المرسوم الحالي بمرسوم جديد يعني أن المرسوم المثير للجدل سيصبح في حكم العدم من الناحية القانونية، فالعبرة بالنتائج، و النتيجة هنا هي نفسها سواء لو تم سحب النص في وقت سابق أو نسخه في وقت لاحق.و النقاش يجب أن ينصب حول مقتضيات النص المرتقب و مدى تحقيقها للإنصاف و العدالة و التحفيز لجميع موظفي القطاع، وخاصة هيئة التدريس التي تجاهلها النص الأول بشكل غريب رغم أن الخطاب التربوي يضعها في صلب كل إصلاح لمنظومة التربية و التكوين .
وفي سياق تآكل منسوب الثقة في المؤسسات الرسمية ، بدا واضحا كذلك أن التشكيلات الميدانية المكونة من نساء و رجال العليم فقدت الثقة بشكل شبه كلي في الوزارة الوصية على القطاع وفي اللجنة الوزارية المشاركة في الحوار مع النقابات التعليمية.ويؤكد ذلك ما يلاحظ من توجس و شك من مدى التزام الحكومة بتنزيل مخرجات الاتفاقات المبرمة، بالنظر إلى تنصلها من اتفاقات سابقة، و التي كان عدم تفعيلها عنصرا رئيسيا من عناصر أزمة الثقة التي يعرفها القطاع حاليا. وبالمقابل لم تستطع الحكومة ردم هذا الشرخ بالإعلان على قرارات واضحة في نصوص تنظيمية كمراسيم و قرارات بالموازاة مع خطوات إعادة النظر في النظام الأساسي لموظفي القطاع، كقرار تحديد ساعات العمل ، و المرسوم المتعلق بإقرار تعويضات تكميلية لهيئة التدريس وغير ذلك.
الملفت للنظر كذلك هو التوتر الحاصل بين المطالب العامة لعموم نساء و رجال التعليم من جهة، ومطالب بعض الفئات التعليمية التي تراكمت ملفاتها منذ أكثر من عقد من الزمن. هذا التوتر عقد التفاوض بين الأطراف خاصة في ما يتعلق بإقرار زيادة محترمة في الأجور بالشكل الذي يتماشى مع وعود البرنامج الحكومي ، كما يبدو من قراءة بسيطة لبعض الإجراءات المعلن عنها في اتفاقي دجنبر 2023 أن النقابات استثمرت جيدا في نضالات المدرسين والمدرسات لتحقيق مصالح ضيقة على مقاس الفئات التي ينتمي إليها الزعماء و محيط الزعماء.
هناك مفارقة أخرى تتعلق بمسألة تحديد مهام هيئة التدريس في النظام الأساسي المرتقب، وحصرها في التربية و التدريس و التقييم و المشاركة في الامتحانات.ففي الوقت الذي تحدث المرسوم السابق عن منحة سنوية تحفيزية مشروطة بتنفيذ مهام إضافية ضمن مشروع مؤسسات الريادة ، ربط اتفاق 26 دجنبر الحصول على هذه المنحة بالمشاركة في مشروع المؤسسة المندمج ، و هو مشروع تتوفر عليه كل مؤسسة تعليمية كإطار إجرائي للتنزيل الميداني للإصلاحات التربوية. الإشكال المطروح يتعلق بتساؤل عن جدوى مشروع الريادة ما دام مشروع المؤسسة قد يمكن من تنزيل هذه الإصلاحات و تحسين جودة التعلمات إذا وفرت الإمكانات البشرية و المادية و البيداغوجية و العدة الديدكتيكية الضرورية لتنزيله.إن العلاقة بين مشروع المؤسسة المندمج و مشروع مؤسسات الريادة تحتاج إلى توضيحات كبيرة.
الواقع المفارق و المقلق الآخر هو واقع اللامبالاة الاجتماعية تجاه شلل تام أصاب قطاعا حيويا و استراتيجيا في المجتمع لأسابيع متعددة، فباستثناء الخرجات المحتشمة لبعض الأمهات للتنديد بحرمان أطفالهن من الدراسة، ظلت فئات واسعة من المجتمع في موقع المتفرج ، سواء تعلق الأمر بالأحزاب السياسية أو باقي التيارات و التنظيمات المدنية والحساسيات السياسية. يكشف هذا الواقع عن إشكالات أخرى تعترض النهوض بالمدرسة العمومية المغربية تضاف إلى القضايا البنيوية الأخرى و تتعلق بعلاقة المجتمع بالمدرسة و تمثلاته لوظائفها، فهل يتصور المغربي البسيط المدرسة كأداة حيوية للتنشئة الاجتماعية و الاندماج و الارتقاء الفردي و الاجتماعي أم مجرد مستودع للأطفال و وملاجئ للمراهقين ؟