الغارقون في شروط النهضة
منذ زمن بعيد ونحن غارقون في المنطقة في جدال شروط النهضة العقيم، بين مختلف التيارات الفكرية والسياسية. شروط باتت تشبه شروط القياس، التي تتسع مع مرور الزمن. إنك لكي تنهض من مكانك تحتاج أن تقرر هذا الأمر. ونهوضك في هذه الحالة قد يكون آمنا، كما يُحتمل أن تُصاب بدوخة تعيدك إلى وضعك السابق.
إن النهضة قرار وليست ترفا فكريا، ولا يُشترط في النهضة النجاح. وإحدى مشكلات الفكر الإسلامي المعاصر هو الاعتقاد أن النهضة تساوي التقدم بطريقة رياضية، كما تساوي المقدمة النتيجة، على ما بينهما من مسافة.
الشرط هو “المغامرة”
النهضة تشبه الإيمان الذي يتمتع به الإنسان، وكلاهما مبني على المغامرة والمخاطرة مثل التجارة. وهذا معنى أقره القرآن حين اعتبر أن المؤمنين يرجون تجارة لن تبور. في حين يَجبُن الملحد عن خوض هذه المخاطرة. وروح المغامرة تمنح أعلى درجات التحفيز والتدافع للمجتمعات، وهي أساس الإسلام نفسه. وكل المشاريع السياسية والفكرية التي تنتمي لدائرة الإسلام، في حاجة إلى أن تستوعب في وعيها معنى المغامرة.
إن العالم الإسلامي لكي ينهض يحتاج إلى المغامرين، لا أولئك الغارقين في محراب التفكير المجرّد. ظنا منهم أن الأقلام تحقق الأحلام. حيث ترتبط النهضة بالشروط النفسية للشعوب أكثر من الأفكار.
مفهوم النهضة غامض لدى عدد كبير من الباحثين المسلمين، فهل تعني النهضة التغلب على الغرب والتحرر من ربقته؟ وهذا هو الفهم العربي لها. أم هل تعني التقدم العلمي والنمو الاجتماعي والاقتصادي الهادئ؟ وهذا هو فهم المسلمين في آسيا لها مثل الماليزيين والأندونيسيين. أمّا الأتراك فإنهم حتى اللحظة يمزجون بين النمطين، التحدي للغرب والتطور الاقتصادي الساخن.
لكن أنظروا إلى الحجم المتواضع للتنظير الفكري والفلسفي لتجربة النهوض التركية الحالية. إن الكثير من الباحثين العرب لا يعرفون رموزا ومنظرين في عالم الفكر التركي لحالة الاستفاقة الجارية الآن.
يعرف الوعي الإسلامي حيال مسألة النهضة اضطرابات عديدة. أهمّها عدم القدرة على الخروج من دائرة بحث الشروط، ومحاولة ملاءمتها باستمرار في كل مرحلة مع التغيرات التي تحدث في العالم. إن الغارقين في شروط النهضة لا يميزون جيدا بين شروط التحرّر، وشروط الانطلاق، وشتّان ما بينهما. فالشروط السابقة التي ارتبطت بمرحلة الاستعمار شروط للتحرر، أما الشروط اللاحقة التي يُفترض أنها شروط للانطلاق، فهي الجانب الأضعف والأكثر غموضا وتسبّبا في بطء حركة المسلمين.
وبين من يعتقد أن شروط النهضة تنتمي لعالم الأفكار، وينادي باستيراد النظريات والمذاهب من خارج المنطقة، أو يدعو إلى تأصيل الاجتهاد المعاصر بالتراث. ومن يرى أن شروطها تنتمي لعالم الأشياء مثل استيراد التكنولوجيا، يضيع أهم مكونات النهضة وهو المغامرة.
أما المجتمعات فهي لا تصنع النهضة، لكن بإمكانها الثورة والانخراط بوعي في مسار النهوض بمشاعرها وقابليتها للاستجابة. وكل خطاب ثقافي موجه للشعوب بشأن مطالبتها بالنهضة، فهو لم يدرك المعادلات النفسية التي تحكم الناس، وتوجه سلوكهم.
قادة مغامرون
أريد أن أشير هنا إلى نموذجين للمغامرة في المنطقة، لتحقيق نهوض بشكل من الأشكال المختلفة كما يراها أصحابها. ويجمع بينهما حسّ المغامرة الكبير، مع اختلاف الأساليب والنتائج. لكن مع تقارب من حيث التواضع الكبير في المنظومة الثقافية والفكرية التي حرّكت كلا النموذجين. وهما محمد بن عبد الوهاب ومحمد علي باشا. أما الحركة الوهابية فسعت إلى بناء دولة في محيط هائج، يصعب تخيل النجاح فيه. بينما كان محمد علي باشا رجلا متواضعا ثقافيا، بارعا سياسيا. وقد قام بمحاولة نهضة جدية في مصر. ولم يرافقها ضجيج فكري وثقافي كبير في ذلك الحين. فقد قرر الرجل أن يبادر إلى التحديث رغم كل المعادلات الدولية التي كانت في غير صالحه.
ولبيان طبيعة الشخصية النهضوية أذكر من بين ما قاله محمد علي لابنه إبراهيم باشا في إحدى رسائله له: يكفيني حمل اسم محمد علي مجرّدا، من أي لقب أو صفة فاخرة. فهذا الاسم في نظري أكثر عظمة من ألقاب أي سلطان أو ملك. لأنه مصدر كل الاحترام والشرف المحيطين بي. أما بالنسبة لكم يا بني، فحافظوا على اسمكم إبراهيم، فهو يكفيكم.
وقد وصلت الخلافات بين محمد علي باشا والباب العالي أقصى مدى ممكن، وأدت إلى المواجهة العسكرية بين الجانبين. وعلينا أن ننتبه هنا إلى أنه في لحظة معينة بعد انتصارات الجيش المصري على العثمانيين، وسقوط فلسطين ولبنان وولاية دمشق في أيدي المصريين (1831م-1832م) ووصول المصريين حتى الأناضول، كانت المنافسة بين مصر وإستنبول قد بلغت حدا كبيرا. حتى أوشكنا على رؤية مصر قاب قوسين أو أدنى من التحول إلى خلافة جديدة، وقوة تَخلُف العثمانيين، لولا فشل المحاولة.
توجيه المشاعر
في كثير من الفترات في التاريخ كانت الشعوب تنساق وراء زعيم ديني أو مصلح حالم، لا بسبب اقتناعها من الناحية الفكرية. لكن بسبب أن أفكارهم كانت تحمل درجة عالية من الصبغة الشعورية. فدعوة العباسيين إلى الرضا من آل محمد لم تكن فكرة تخاطب العقل، بل دعوة سياسية بالغة الصبغة الشعورية، تنفذ إلى أعماق روح الجماعة. ومن العباسيين حتى الثورة الفرنسية ظلت التغييرات تعتمد على عاطفة الجماهير لا عقولها.
والعقل الحداثي يواجه أكبر معضلة في العالم الإسلامي، وهي المعادلة الشعورية للمجتمعات. فالحداثيون فاشلون في إقناع شعوب المنطقة والتواصل معها شعوريا، لأنهم يفتقرون إلى أي رابط من هذا النوع مع هذه المجتمعات. ولأنهم لا يملكون سوى ما استوردته عقولهم، فإنهم سوف يسعون دائما إلى استعمال السلطة، للتأثير في القوانين التي توجه حياة المجتمعات، وتغيير أنماط عيشها. إن ما ننساه كثيرا هو أن المفكرين الكبار الذين أحدثوا تغييرات في المجتمعات، كانوا حالات شعورية، قبل أن يكونوا حالات فكرية. إنك لا تستطيع أن تنظر إلى أمثال سيد قطب على أنه حالة علمية، فهو حالة شعورية بامتياز.
نحن شعوب بالغة العاطفة، فقدرة التأثير على الجموع، التي يتمتع بها واحد من الفنانين، تفوق بكثير ما يستطيع فعله جيل كامل من المثقفين، الذين يعتقدون أن بإمكان عقولهم أن تحدث تغييرا في سلوك المجتمعات.
كانت مصر تسهر وتنام وتستيقظ على وقع حفلة من حفلات أم كلثوم، وكذلك الحال في كثير من بلدان المنطقة. إن جنازتها لم تشبه جنازة أي زعيم أو رمز سياسي وثقافي في المنطقة. وعندما تتفاعل أي جموع مع زعيم عربي، فينبغي أن نكون على يقين أنه قد مسّ عاطفتها وبنيتها النفسية لا عقلها.
تنظيم السلوك قبل الأفكار
إن عادات الناس أهم مما يحملونه من أفكار فردية، وينبغي أن يتم إصلاح تلك العادات. يا أيها المصلحون والمثقفون تجاهلوا للحظة أفكاركم العميقة. وعلّموا الناس الأمانة وحرمة المال العام، وأن ينظروا إلى السارق والغاش نظر اشمئزاز. علّموهم قداسة الدماء وحرمة الجامعات والمؤسسات، وقداسة المعلم والعالم والمفكّر.
علّموا الناس أهمية الجار، وكيف يعيشون حياة منتظمة في المجال العام، في الأسواق والشوارع. لقّنوهم أهمية الانضباط في تفاصيل الحياة اليومية. وكل ذلك مرفوقا بمنظومة التذكير بالمعاني الدينية المناسبة. إن نظام الإسلام غير متسرب إلى الحياة في المنطقة، رغم الطقوس الموجودة. إن أهم نهضة هو أن تتعلم الشعوب الاستجابة لما يحييها، بمعنى أن تكون حية يقظة.
إن المجتمعات التي لا يعيش بينها من يبحثون عن الشهادة، من أجل الدين أو العلم أو المبادئ، هي مجتمعات غير مكتملة في نظر حركة التاريخ.
أما أولئك الذين ماتوا من أجل إثبات حقائق جديدة عن الحياة والكون والفيزياء والفلك، فبإمكاننا عدّهم على رؤوس الأصابع. في حين يصعب علينا حساب أولئك الذين ماتوا من أجل الإيمان، ومبدأ الحق كما اعتقدوه.
وما يقدر على فعله اليقين الذي تمتلكه العامة من الناس، لا يقدر عليه يقين كثير من العقلاء. إننا لا نعرف عن زعماء الاشتراكية إلا أسماء قليلة. لكن تلك الجموع التي ماتت في الصين مع ماو، وفي الاتحاد السوفيتي في حروب ستالين، وأولئك المضحّين بأرواحهم من اجل هتلر، لا أحد يعرف عنهم الكثير.
وكذلك في حروب المسلمين الكبيرة، تشتهر أسماء القادة السياسيين. لكننا للأسف لم نتمكّن من معرفة ولو بعض أسماء الجنود البسطاء، الذين كانوا يموتون تحت أسوار المدن والقلاع، وتختلط أجسامهم بأسوارها المتهدّمة. إننا لا نمتلك في ماضينا وحاضرنا مقبرة تخلّد ذكرى الجندي المجهول، ومن لا نعرف أسماءهم. إن الحضارات تتقدّم عندما لا يستطيع أصحاب الإيمان الجديد، تحمّل ضلالات غيرهم من الأمم.