رأي

ضرورة انخراط كل مكونات المشهد السياسي الفلسطيني في مصالحة شاملة

ضرورة انخراط كل مكونات المشهد السياسي الفلسطيني في مصالحة شاملة

ما يعيشه قطاع غزة من دمار وخراب وهلاك وحصار بسبب استراتجية الأرض المحروقة التي اعتمدها جيش الاحتلال الإسرائيلي. في سياق انتقام جامح وغير مسبوق بسبب اهتزاز صورته على خلفية عملية طوفان الأقصى. وما يقع من تطوراتٍ صادمة متلاحقةٍ وأحداثٍ مؤلمة متسارعةٍ مرتبطةٍ براهن القضية الفلسطينية ومستقبلها. ينضاف بكل تأكيد، إلى ما نجم عن مفاوضات السلام من خيبات وإحباط، والتي فشلت مرارا، على الرغم من أن الجانب الفلسطيني قدم خلالها تنازلاتٍ كبيرة جرّاء الابتزاز والانحياز الأميركيين، والعقلية التي تفهم بها إسرائيل عملية السلام.

ويطرح هذا المشهد، بكل تعقيداته والتباساته الدولية والإقليمية، علاوة على الوضع الفلسطيني الداخلي المهترئ والهش، بسبب سلطتين في غزة ورام الله، وغياب هدف جامع وموحد، وانعدام أي رؤية استراتيجية قادرة على تجاوز حالة الجمود والاحتقان التي عمرت طويلا، يطرح ملحاحيه إعادة اللحمة والوحدة بين الضفة الغربية والقطاع، وتفعيل المصالحة الوطنية الفلسطينية، وتنظيم انتخابات نزيهة وشفافة تقطع مع الماضي، واعتماد استراتيجية وطنية للترافع والدفاع عن النفس والحقوق.

ويأتي إلى بال كاتب هذه السطور، ما سمعه، في أثناء أول انتخابات تشريعية ورئاسية جرت في فلسطين عام 1996، من الرئيس الفلسطيني الحالي، محمود عباس، في لقاء أجريته معه في قطاع غزة، بصفته آنذاك رئيسا للجنة المركزية للانتخابات، إن الشعب الفلسطيني لأول مرة يصوّت في أرضه وتحت رعاية سلطته. واعتبر تلك الانتخابات بأنها ستنقل السلطة من الشرعية الثورية إلى الشرعية القانونية. وهذا مهم جدا، ليعطي الدلالة على الديمقراطية الفلسطينية التي ستبدأ مسيرتها اعتبارا من هذا الاستحقاق.

وأضاف، ونحن جالسان في فضاء المجلس التشريعي في غزة، إن هذا المجلس سيكون رقيبا وحسيبا على السلطة، ليس فقط في قضايا المرحلة النهائية، وإنما في الحياة اليومية التي ستمارسها السلطة، وهو الذي سيدقق وسيحاسب وسيسأل وسيراقب. ولذلك سيكون هناك نمط آخر من تحمّل المسؤولية ومن الحساب والعقاب. فيما قال المناضل الفلسطيني، حيدر عبد الشافي، إن “القضية الديمقراطية هي الأساس بالنسبة لي ولقائمتي، من دون إغفال مطالب الشعب الفلسطيني الكثيرة، لكن تعزيز الديمقراطية هي مقدمة تحقيق كل المطالب”. وهو ما تقاطع معه فيه الراحل فيصل الحسيني الذي كان مكلفا بملف القدس، عندما أكد، وكنا في بيت الشرق، أن “الحماس الفلسطيني يعكس الرغبة في أن ننتقل من مرحلة الثورة إلى مرحلة الدولة، أي الانتقال إلى حكم ديمقراطي. هذا ما نريده، ولا نريد أن نكرّر ما جرى في دول أخرى”.

وهذا ما عبر عنه، بصيغة أخرى، بسام أبوشريف، المستشار السابق للرئيس ياسر عرفات، فحسب رأيه، أن المواطن الفلسطيني اندفع إلى صناديق الاقتراع، لأنه شعر بأن صوته مهم في اتخاذ القرار. وأنه بات يمارس حقا من حقوقه طالما منع منه. وسارع إلى صناديق الاقتراع، لأنه كان يستفتى حول الخط السياسي أي حول عملية السلام وإيجاد حل سياسي للقضية الفلسطينية.

الغاية من إيراد هذه المقتطفات، من لقاءات أجريتها في فلسطين، ثلاث سنوات بعد التوقيع على اتفاق أوسلو، هي الوقوف على حجم المراهنة على أول انتخابات نظمت في أراضي السلطة الفلسطينية، وعلى المؤسسات التي انبثقت عنها، وفي مقدمتها المجلس التشريعي، لأنه كان ينظر إليه رافعة أساسية للعملية الديمقراطية والتعدّدية السياسية الفعلية. ولكن أحلام (أو أوهام) أوسلو سرعان ما تبخّرت، وبات تشخيص الوضعين، الداخلي والإقليمي، يكاد يكون خلاصة وقناعة مشتركة بين شتى الفصائل. من هنا، يجب أن يتفق الفاعلون من مختلف المرجعيات والتوجهات، على حد أدنى وطني، للعمل المشترك، لتجاوز الزمن الديمقراطي والسياسي الميت، بعد أن تم تجميد العملية الديمقراطية واللجوء إلى التأجيل المتكرّر لعدد من الاستحقاقات.

وأمام وضع داخلي مفكّك ومضطرب، وانهيار عربي شامل ومأساوي،وانحياز كامل للغرب لصالح إسرائيل تطرح ضرورة انخراط كل مكونات المشهد السياسي الفلسطيني في مصالحة شاملة وصريحة وجريئة، ولم لا التفكير في حكومة وحدة وطنية انتقالية، تضم كل ألوان الطيف السياسي، لتدبير المرحلة الراهنة، والتصدّي لاختلالات الداخل، ومخططات حكومة الاحتلال اليمينية المتطرفة التي تعمل بكل الوسائل للإبقاء على الوضع القائم بكل سلبياته ومخاطره، بما في ذلك التنكر للحقوق التاريخية والمشروعة للشعب الفلسطيني، لأنه ليست هناك معجزات لتحقيق مطالب الشعب الفلسطيني، فالمعطيات الجيو-سياسية تغيرت، وإعادة صياغة خريطة جديدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا باتت انشغالا وهاجسا لدى الولايات المتحدةالأمريكية وقوى أخرى.

فهذا يتطلب في المقابل نظاما سياسيا فلسطينيا قويا ومتماسكا، واستعدادا للنقد الذاتي، مقدمة لتنظيم مؤتمر وطني للمصالحة والوحدة والوفاء للثوابت الوطنية، مع ما يعنيه ذلك من إصلاحات عميقة لمختلف المؤسسات والبنيات، ومن تجميد لشتى أشكال الصراع الأيديولوجي. ووضع كل الخلافات جانبا. وتجميدها لصالح ما هو استراتيجي وأساسي. كما ينبغي الاستثمار الأمثل والذكي للعلاقات مع المنظمات والأحزاب والدول الغربية وروسيا والصين والإعلام الدولي المؤثر.

ويبقى الانقسام الذي استفحل وتعمق بين الضفة الغربية وقطاع غزة نتيجة الصراع المدمر وغير المبرّر بين حركتي فتح وحماس، السبب الأساسي والجوهري الذي شل الحياة الديمقراطية، وأجهض كل الانتقالات الممكنة. بل أفقد الرصيد الثوري للقضية مصداقيته وطهرانيته. وهذا ما يعجل بإنهاء هذا الوضع بدون حساباتٍ ضيقة وحساسياتٍ مفرطة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News