رأي

لماذا وكيف تمكنت منظومتنا الصحية من مواجهة كارثة الزلزال؟

لماذا وكيف تمكنت منظومتنا الصحية من مواجهة كارثة الزلزال؟

يقوم الكثير من الناس، وهم يتابعون التغطيات الصحفية للقنوات، والأرقام التي تفرج عنها السلطات، ويحللها الخبراء، للزلزال الذي ضرب المملكة المغربية بقياس كارثته على أزمة كورونا.

فكورونا لازالت عالقة للآن بالأذهان، كما أن متحوراتها مواظبة على التناسل لحد اليوم، والخوف الشديد الذي خلفته في النفوس يجعلها معيارا يتم تقييم كل الكوارث اللاحقة على أساسه، وخصوصا حين تتمخض عن أزمة صحية بالغة فيها مصابون ووفيات. فهو فيروس عطل العالم، وأبطل العولمة ،وأربك سلاسل التوريد، وخلف ملايين الضحايا ، وانهارت معه أعتى المنظومات الصحية، ولذلك لازال لأجواء كورونا سلطة وتأثير كبيران على الناس ولا شعورهم.

هكذا توقع الكثير من الملاحظين والمتربصين بالمغرب، ان تسقط مؤسساتنا الاستشفائية، بسبب ضغط أعداد الضحايا الذي اعتبروه سيفوق العرض الصحي، ليس على المستوى الجهوي فقط، وإنما حتى على المستوى الوطني كذلك، ليصل ببعضهم الأمر إلى حد التعجب من عدم هرولة المغرب نحو المساعدات التي تقترحها الدول معتبرين انها فرصة لا تعوض بالنسبة له.

ما لا يتم الانتباه اليه أن الزلزال وكورونا، وإن كانت تترتب عن كليهما أزمة صحية الا أنهما ازمتان تختلفان كثيرا بينهما في نوعية الضحايا وطرق المعالجة.

أول الاختلاف أن كورونا تضرب البلد برمته، وبالتالي تستنفر كل المنظومات الجهوية دفعة واحدة مما يصعب مهمة أن تأتي أحدهما لمساعدة الأخرى، اما الزلزال، وإن كان قد هم منطقة كبيرة تجاوز قطرها 500 كلم، إلا أنها تبقى محدودة رغم شساعتها.

في الحالة المغربية، كان هناك خمسة اقاليم متضررة، وهو ما جعل أن المنظومات الصحية المعنية كانت ثلاثا فقط، وهكذا أصبح المغرب يتوفر على منظومات جهوية منخرطة وأخرى متأهبة للتدخل، وهو ما يعني اننا خضنا معركة إنقاذ الضحايا وعلاجهم، ونحن مطمئنون الى ان لدينا هوامش احتياطية يمكن تجنيدها ضمن المجهود الصحي المبذول إذا ما دعت الحاجة لذلك. وهو مالم يقع الا بشكل محدود عندما كان يتم من حين لآخر نقل بعض الحالات المعقدة الى الرباط والدار البيضاء، هذا الاحتياطي من المنظومة الصحية شكل دعما معنويا للمسؤولين الصحيين الذين كانوا يعون في قرارة أنفسهم أن لهم اوراقا إضافية يمكن ان يلعبوها اذا تفاقم الوضع او أصبح أكثر من كارثي .زد على ذلك أنه عندما نتحدث عن المنظومة الجهوية فذلك يعني ثلاثة اذرع وهي القطاع العام والخاص وبالخصوص قطاع الطب العسكري المدرب على مواجهة مثل هذه الكوارث وطنيا ودوليا من خلال هروعه لتقديم الدعم الانساني والصحي في عدد مناطق العالم.
كذلك يختلف السياق كثيرا هذه المرة عما عشناه خلال كورونا رغم انه يتم استعمال نفس المصطلحات ،حالات خفيفة وشديدة وحرجة ووفيات ،فكورنا داهمتنا على حين غرة في وقت كانت فيه منظومتنا الصحية مهترئة متهالكة قاصرة عن مواجهة وباء خطير مثلها، لولا أنه تم تعويض هذا القصور بالنظرة الاستباقية والإشراف الشخصي لجلالة الملك الذي عبأ كل إمكانيات الدولة، وحالف الطب العسكري والعمومي والخاص و أحيي الحس الوطني للشعب في ملحمة انبهر لها العالم آنذاك، بالنسبة لزلزال الحوز فهو اكبر من أزمة بل هو كارثة، وبالتالي لم يكن بدوره متوقعا، وإنما شكل مفاجأة تفوق مفاجأة كورونا التي كانت تبدأ لدى الدول الكبرى قبل ان تصل موجاتها لنا مما كان يمنحنا فرصة للاستعداد والتحصن ضدها والتفاوض معها، لكن مع ذلك يمكن القول إن الزلزال وقع في وقت كان فيه المغرب قد استفاد من دروس كورونا وربى حسا ويقظة إزاء الكوارث التي تختبئ في رحم المستقبل ،كما كان قد شرع في تغيير عميق لمنظومته الصحية وإرساء نظام للتغطية الصحية الشاملة، وبالتالي حضر الزلزال على خلفية من الجاهزية التي إن لن تكن كاملة، فقد كانت شبه كاملة. ولذلك رأينا كيف ان السلطات هرعت إلى أمكنة الحادث في الساعات الأولى لوقوعه. هذه السرعة في الوصول والانتقال إلى مواقع الكارثة، هي أهم مؤشر يدل على الكفاءة والجاهزية والنجاعة التي تصرفت بها القيادة والتي كان على رأسها جلالة الملك.

المؤكد جدا أنه في الوقت الذي كان فيه الجيش، ينشر أولى معداته الهندسية واللوجستيكية في الجهات المتضررة، كانت خلية الأزمة شغالة بأقصى طاقتها، تستدعي ما راكمه المغرب من تجربة وخبرة ومراس في التفاعل مع الكوارث وطنيا ودوليا، وتعمله وتنزله على المعطيات الجغرافية والعمرانية والاجتماعية للجهات المنكوبة ،وتتصور بأقصى السرعة الممكنة السيناريو المحتمل لتطور الاحداث ،وبالتالي تضع مجمل الإجراءات والاستجابات اللازم القيام بها عمليا في الميدان مما تمخض عن ذاك القرار الذي فاجأ العالم بعدم قبول كل المساعدات التي اقترحتها 90 دولة والاكتفاء بأربعة عروض فقط .كان ذلك اول خطوة على درب النجاح في التفاعل مع الأزمة، بل علامة على ان الدولة المغربية ظلت متماسكة و محافظة على رباطة جأشها ،وأنها تتصرف بشكل علمي وعقلاني في مواجهتها، ولبس بشكل انفعالي و استعراضي.

لقد فهمت أن الميدان لن يتسع لأكثر من الفرق المغربية مع عدد قليل جدا من الاطر الأجنبية. ومن هنا كان ذاك القرار السيادي الاستراتيجي بالاعتماد على المقدرات المغربية في الإسعاف والإنقاذ والعلاج. أكثر من ذلك، وعلى مستوى التكفل الطبي راهن المغرب بالخصوص على المنظومة الصحية الجهوية، فكيف كان سيطلب الدعم إذن من الخارج، وهو لم يفعل حتى كامل منظومته الوطنية؟

استوعبت الدولة المغربية بسرعة أن الأمر يختلف كثيرا عن كورونا. هذه أزمة طارئة لن تمتد مرحلتها الحادة والفارقة أكثر من عشرة أيام، وأن للفائدة من انتظار الآخرين لأنهم سيصلون بعد فوات الأوان، ويتسببون في العشوائية وتعدد مراكز القرار، لذلك كان لابد من التحرك بقوة وبسرعة قصويين. وبالأخص لابد من التعويل على النفس .

وهنا أريد أن أشرح لمن يلتبس عليهم الأمر، وينزلون أزمة كورونا على فاجعة الزلزال، وقد لاحظت هذا كامنا في أسئلة العديد من الصحفيين الذين استضافوني بالقنوات الفضائية العربية في الموضوع، أن ضحايا كورونا كانوا ضحايا وباء، وهم مرضى أصابهم عامل فيروسي مسبب للمرض، وهو ينتقل منهم إلى المحيط، ولذلك كان يحتاط منهم المخالطون وحتى الأطر الصحية، بينما ضحايا الزلزال يحق لنا ان نصفهم بالجرحى في مكان الحادث، أو بالمرضى حين يدلفون الى المستشفى للعلاج. هم لم يتعرضوا لجرثومة ،وإنما كانوا ضحية ارتطامات وانهيارات وصدمات نتيجة سقوط أغراض ثقيلة عليهم وانهيال للحطام والأنقاض عليهم ،وهم لا ينقلون مرضا، ولا يعدون أحدا، وبالتالي على عكس مرضى كورونا الذين ينشرون المرض لا يسبب هؤلاء اي أذى او عدوى للمحيطين بهم .ولذلك لا نحتاج لتلك الاحتياطات التي نتخذها عادة في مباشرة مرضى كورونا، وإن كانت الأطر الطبية وعناصر الإنقاذ والإسعاف تضع أيضا كمامات وقفازات يد، فلأجل أن تتقى غبار التربة ولا تستنشق بعض المواد الضارة التي قد تنبعث من أماكن الزلزال كالغاز…إلخ وخصوصا حين يضرب مدنا بها منشآت صناعية. في الزلزال، يقبل الأطباء على علاج الجرحى دون توجس من انتقال المرض إليهم ولذلك تزداد قدرتهم على العطاء ولا يحتاجون الى العزل عن ذويهم او اتخاذ إجراءات من هذا القبيل، وبذلك يباشرونهم، وهم متحررون من مشاعر الخوف والهلع، مما يضاعف العطاء والتضحية.

كورونا أزمة صحية مستمرة في الزمن وفي تطور وتأخذ شكل أمواج تطول لأشهر قبل أن تتضاءل، ثم تعاود الظهور: هي هكذا، تصاعد حالات، ثم ذروة، فهبوط للمنحنى، وبالتالي لا يكون عدد المصابين ولا حجم الأزمة معروفا بل متوقعا فقط بناء على متغيرات كثيرة أهمها التزام الناس بالحجر الصحي وحماس السلطات الصحية وصرامة تطبيق الإجراءات الاحترازية، أما عند الزلزال فالحادث لا يتجاوز ثواني معدودة، بحيث اننا في الحقيقة نتفاعل كدولة وكسلطات مع تداعيات الزلزال الصحية وليس مع الزلزال في حد ذاته. منذ اللحظة الأولى للواقعة يتحدد عدد الموتى والجرحى والمحتجزين داخل الانقاض لكنه يكون غير معروف لنا الا بشكل تقريبي، لكنه وهذا هو المهم لا يتصاعد أبدا إلا إذا وقعت هزات ارتدادية تسقط ابنية متصدعة وضحايا جدد. ما قد يقع بالخصوص هو ان جريحا يمكن ان يتحول إلى شهيد إذا لم نفلح في النفاذ اليه وهو محتجز. وبالتالي تكون المهمة الصحية هي الوصول إلى هؤلاء الفئات الثلاثة والتعامل مع كل فئة منها بما يناسبها سواء بالدفن أو العلاج أو الانتشال أو المواكبة النفسية.
لكل هذه الخصوصيات المختلفة، تتدخل الأطر الصحية بالنسبة لكورونا خلال الأزمة، بينما تتدخل في الزلزال بعد الأزمة أو الواقعة، ولذلك تكون ازمة الزلزال صحية أيضا بل هي الأزمة الأولى في متتالية الازمات التي ستنجم عنه والنجاح في التعاطي معها يحفز نجاح المبادرات اللاحقة.

هذه الأزمة قد تأخذ حجما كبيرا الا انه حجم لا يتفاقم ولا يستفحل يوما بعد يوم : غالبا لا تكون هناك إصابات جديدة اذا ما استثنينا ان تعطل الوصول إلى المحتجزين قد يقود بعضهم إلى حتفهم .لكن بصفة عامة، يكون عدد الموتى زائد عدد الجرحى زائد عدد المحتجزين ثابتا وقارا، وبالتالي لا يكون الوضع الصحي وضعا سائلا مفتوحا على المجهول تماما كما هو الحال بكورونا، ولذلك تستطيع بعض النظم الصحية التي تتقن تدبير الأزمات أن يكون لها وفقا للمعطيات الجيولوجية والطبيعية والسكانية الخاصة بالمنطقة التي ضربها الزلزال وحجم الزلزال وقوته وعدد المفقودين الذين ينشدهم احباؤهم ومعارفهم خريطة طريق منذ الساعات الأولى، وهذا ما وقع في الحالة المغربية حيث أعتقد أنه قد كان للسلطات المغربية رؤية وتشخيص تقريبي لحجم المهمة المنتظرة، ولذلك قدرت انها ستفي بها لوحدها اذا ما تجند لها الجيش المغربي المدرب تدريبا جيدا على تقديم خدمات الإسعاف والإغاثة في مثل هذه الظروف، ورجال الوقاية المدنية والأطباء، والممرضين، بالإضافة إلى مساهمة و انخراط السالمين والناجين من الناس، بل لقد كان خيارها صائبا حتى لما اعتمدت في ذلك فقط على تعبئة المنظومة الصحية الجهوية في إنجاز أغلب ما كان مطلوبا .

تختلف إصابات كورونا عن الزلزال ،فالفيروس يؤدي الى قصور تنفسي حاد ،ويثبط اغلب الوظائف الحيوية للجسم، وبالتالي كانت الحالات الشديدة تعني دائما خطر التعرض للموت، والحالات الحرجة تعني العناية المركزة والحاجة الماسة إلى الأوكسجين أما بالنسبة للزلزال فأغلب الإصابات إذا ما تجاهلنا الحالات النفسية ،تتلخص في الكسور التي تهم الصدر والحوض والعمود الفقري والأطراف مع كل العواقب المترتبة عنها ،والتي تصل إلى الإعاقة أحيانا كثيرة، وكذلك حالات رضح الوجه والعيون والنزيف الداخلي وضيق التنفس نتيجة التعرض للغبار …إلخ، ولذلك فالحالات الخطيرة لا تعني فقط تلك المهددة بالموت ولكنها تعني بالخصوص الحالات المعقدة التي يكون فيها المصاب يعاني من عدة كسور ويحتاج لتدخل من طرف عدة اختصاصات ولعلاج على المدى المتوسط. هكذا لا تكون كل الحالات الخطيرة محتاجة لسرير انعاش يتطلب صبيب اوكسجين، وهو ما يفسر ان عدد من يدخل من الحالات الخطيرة إلى العناية المركزة قليل بالمقارنة مع مجموع هذه الحالات .بتاريخ الجمعة 15 شتنبر 2023، أفرجت وزارة الصحة لأول مرة عن تفاصيل حصيلتها فذكرت انها استقبلت ما مجموعه 6125 حالة منها 873حالة خطرة اي 14% بينما ذكرت ان عدد الحالات الخفيفة هو3438 أي 56% وهو ما يجعل بعملية حسابية بسيطة عدد الحالات المتوسطة 1814 أي 30% ، الرهان كان منصبا اذن على الحالات الخطرة، وحتى مفهوم الخطر مختلف هنا، فهو لا يعني دائما اشخاصا مهددين بفقدان الحياة أي في العناية المركزة وعددهم كان بحدود إصدار البيانات 81 حالة من مجموع 476 حالة كانت باقية بالمستشفى، بل يعني أيضا أشخاصا مهددين بآثار وخيمة على صحتهم المستقبلية، أي أشخاصا يعانون من عدة كسور او كسور بالعمود الفقري أو بانضغاط الأطراف وبالتالي هم معرضون للبتر وللإعاقة والشلل. ولذلك كان هؤلاء الجرحى يحتاجون بالخصوص لعدة تدخلات وتخصصات جراحية كجراحة العظام والجراحة العامة وجراحة الرأس والعيون… إلخ

لم تكن الحاجة ماسة بأطباء التخدير والانعاش كما كان الأمر بكورونا، بل استغرقتها عدة تخصصات مما استطاع معه المغرب أن يعبئ بسلاسة ومرونة بالغتين أكثر من 1200 طبيبا وأكثر من 1700 ممرضا الغالبية العظمى منهم يعملون في الجهات المتضررة.

يوم السبت، وبعد أقل من يوم على حصيلة الجمعة سيقفز العدد الإجمالي للحالات المتكفل بها الى 9472، وهنا ما يعني زيادة تقدر بأكثر من 3500 حالة في أقل من 24 ساعة. لم يكن ذلك ليدل على تفاقم الوضع، بل على العكس كان ذلك مؤشرا ايجابيا على ان كل الطرق نحو الدواوير المتناثرة في مسرح الزلزال قد تم الوصول إليها، وانه حتى تلك الحالات البسيطة جدا اخذت تتقاطر على الاطباء بما في ذلك الأشخاص الذين يعانون من أمراض مزمنة سابقة طبعا على الزلزال والذين انقطعوا عن العلاج بسبب هول الصدمة وفقدان عقاقيرهم بين الركام. في بيان السبت كان عدد من بقي بالمستشفيات هو فقط459 حالة بينهم 74 حالة حرجة. وهذه الحالات كانت في مقدور مؤسساتنا الصحية، ولذلك فإن قرار الاعتماد على أنفسنا كان هو القرار الواجب اتخاذه لأنه كاف جدا، ولأنه كان كذلك يشيع صورة جيدة تليق بالمغرب داخل المجتمع الدولي وبإمكانياته الحقيقية.

لقد ساهم قي هذا النجاح أيضا الحمية والعاطفة ومشاعر التضامن والتضحية والفداء التي تسيطر على نفوس المغاربة ومن ضمنهم الأطباء والممرضون في الأوقات العصيبة التي يحتاجها فيهم الوطن، يصبح الطبيب كأنه ثلاثة أطباء والممرض كأنه عشرة أطباء، وكذلك كان الأمر في مراكز تحاقن الدم حيث تداعى المغاربة للتبرع بالدم متجاوزين كل توقع بل ان حصيلة يوم من التبرع كانت تفوق ما يتم جمعه خلال 3 أشهر. إن هذا الزلزال حقق تربية على التبرع لا مثيل لها سيكون لها آثار إيجابية في المستقبل فيما يخص توافر هذه المادة الحيوية.

أمام هذه الهبة الشعبية والطبية، لم يكن الاهتمام لينصب فقط على ترميم الأعطاب الجسدية فقط، فقد كان هناك متسع للشروع مبكرا في المواكبة النفسية للمتضررين، وخصوصا للأطفال المنكوبين الذين كان يتعين سحبهم وبسرعة من أجواء الزلزال وصرف اهتمامهم نحو العابهم وهواياتهم المفضلة كالرسم والموسيقى وكرة القدم، وهكذا رأينا مساعدات اجتماعيات واطرا للدعم النفسي والاجتماعي يلتحقون بقوافل العلاج وبالمستشفيات الميدانية وبالخيام والفضاءات التي يتواجد بها الضحايا .لكن أكبر دعم نفسي تلقاه الضحايا، وكذلك أولئك المغاربة الموجودين بعيدا عن بؤرة الزلزال المتأثرين بأخبار وتغطيات القنوات الصحفية له، كانت صور صاحب الجلالة وهو يعطي دمه فداء لأبناء وطنه و يعود الضحايا ويقبل رؤوسهم .كان ذلك بمثابة تخفيف لوطأة الحدث ومواساة وطمأنة بأن الدولة لن تتخلى عن أي فرد من افرادها، وأن الزلزال لم يضرب الحوز وتارودانت وشيشاوة وأزيلال فقط، بل كل ضرب المملكة المغربية وهي من ستنهض متضامنة بأعباء تكاليفه.

التكفل النفسي يجد أيضا أحد اوجهه في التدابير التي تمخضت عن جلسة العمل الثانية التي عقدها جلالة الملك مع القطاعات والمسؤولين المعنيين حيث صدرت إجراءات ملموسة تهدف إرجاع الوضع بالأقاليم المنكوبة إلى أحسن ما كانت عليه. كل هذه القرارات كانت في رأيي تساهم بدورها في العلاج وتضميد الجراح النفسية والجسدية.

مع حلول اليوم العاشر تلاشت، ولكن لم تنعدم آمال العثور على ناجين. وبشكر الملك للفرق الأجنبية المشاركة في التنقيب عن الضحايا، يكون ذلك مؤشرا على ان المراحل الحاسمة من عملية الإنقاذ والعلاج قد تمت، وأنه لا يتبقى الا التفاعل مع التداعيات الصحية على المدى البعيد.

هكذا بدأت تثور في وسائل الإعلام نقاشات حول الجثث سواء، للبشر أو للحيوانات النافقة، والتي قد تكون ظلت تحت الأنقاض، لكن ستصدر تطمينات من منظمة الصحة العالمية تؤكد ان هذه الجثث لا تنطوي على خطر نشر الأوبئة لأنها تتعلق بأشخاص معافين قضوا نتيجة حادثة وليس بسبب وباء.

زد على ذلك ان هذه الجثث المفترضة تكون معروفة بالاسم، لأن طبيعة العبش التقليدي داخل القرى تجعل مصبر كل شخص معلوما، وبالتالي معرفة ما إذا كن هناك جثث متبقي تحت أنقاض أي دوار. ومع ذلك، ورغم علم وزارة الصحة بهذه المعطيات التي لم تكن لتخفى عن خبرائنا، انطلقت أيضا عمليات للتعقيم نفذتها عناصر الجيش الملكي بالتعاون مع مصالح حفظ الصحة بالجماعة المحلية للأقاليم المتضررة، لينصب الاهتمام على الناجين وعلى السكان الذين تقلهم الخيام والفضاءات المختلفة للإيواء حيث انهم يظلون معرضين بفعل الازدحام إلى انتشار بعض الأمراض التي تنجم عن التجمعات البشرية الكثافة، ولحد كتابة هذه السطور لم تعلن وزارة الصحة عن تسجيل اي عدوى .عادة يكون هناك خطر انتشار أمراض الإسهال والالتهاب النفسية الحادة والكزاز والتهاب الضحايا والالتهاب الكبدي ألف والحصبة والأمراض التي تنقلها بعض القوارض. ولكن عددا من هذه الأمراض لا يملك اية فرصة للظهور فبالأحرى للانتشار بفضل معدلات التلقيح العالية لدى المغاربة. لكن الوزارة فعلت منظومة اليقظة الوبائية كما تقتصيه مثل هذه الظروف تحسبا لظهور أية أوبئة.

المؤكد ان الطريق لازال طويلا، ووزارة الصحة عليها أن تتحلى بطول النفس والقدرة على الاستباقية لأجل ان تتجنب كل المخاطر التي تحملها الطريق نحو إعادة الإعمار .فهناك بعض العمليات الجراحية التي لازال مطلوبا القيام بها ،وكذا عمليات إعادة تأهيل بعض الجرحى والمواكبة النفسية لكل من يحتاجها خصوصا لمن سيعانون من اضطراب ما بعد الكرب الذي هو رد فعل متأخر على الزلزال قد يستمر لشهور ولربما لسنوات في بعض الحالات، وقد يؤدي بالبعض إلى تغير حتى في الشخصية، وفي هذا الإطار، ستظل الحكومة مطالبة بتوفير منصات رقمية للعلاج عن بعد خصوصا مع إمكانية تفعيلها بفضل تجميع المنكوبين في مراكز الإيواء ،وبتجنيد المجتمع المدني والتركيز بالخصوص على الأطفال الذين هم مؤهلون أ كثر من غيرهم لحمل ندوب الكارثة حتى في سنوات كبرهم وذلك من خلال حمايتهم و رعايتهم ومساعدتهم نفسيا على قبول واقعهم الجديد خاصة أولئك الذين فقدوا كل معين او سندلهم .
من البديهي في النهاية ان نقول إنه لازال يعوزنا رقم مفتاحي مهم في تقييم عمل فرق الإنقاذ والعلاج ويتعلق بعدد المفقودين، فكلما كان صغيرا كلما دل ذلك على نجاعة التدخل .

خلاصة القول ان خبرة هذا الزلزال جعلت المغرب ينتبه لنفسه كبلد قادر على ان يتولى أموره في أحلك الظروف وأقساها، وهذه أولى الخطوات على درب الاكتفاء الذاتي والتقدم والنماء، وإحدى معايير النظر الى الدولة المعنية بعين التقدير والاحترام تتحقق للمغرب.

كان الزلزال مأساة بكل ما في الكلمة من معنى، لكنه كان اختبارا لمنظومتنا الصحية ولمؤسساتنا ولتماسكنا الاجتماعي ولقد نجحنا فيه لحد الآن بامتياز. فلنواصل بنفس الحماس والجدية، فالمسار طويل وشاق، لكنه لا يستعصي على سواعدنا وعقولنا وكرمنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News